أجلس في سوق «الكابليك تشارشيه» أي السوق المقفول باللغة التركية في مدينة استانبول، أو الجراند بزار، وهو اسمه باللغة الإنكليزية، وأتذكر والدي كما كان يجلس ذات الجلسة هنا وهو يتحدث بمتعة ويتحاور باللغة التركية مع تجار المحلات وباعة السجاد اليدوي والجلديات والمنسوجات والبهارات والحلويات، وتمضي الساعات الطويلة بدون أن يشعر بأي ملل من صرف هذا الوقت الطويل معهم، متعة وسعادة كبيرة يستشعرها وهو يتبادل الكلام بلهجته الأم التركية من دون أن يحس بالملل الذي ينتابنا نحن بناته الثلاث المدللات المتمنيات لحظة الانعتاق من هذا السوق المغلق على لا نهائياته بكل هذه الالتفافات والأزقة المتداخلة بعضها في بعض، الآتية من أزمنة سلاطين وتاريخ حضاري عريق عظيم، لم يستوعب قيمته وأدرك ماهيته عمرنا الصغير وخبرتنا الحياتية والثقافية المحدودة التي لم تتكون ولم تتشكل بعد، وحديث والدي اللانهائي غير المفهوم وغير المقدر من طرفنا نحن الذين كنا صبيات مدلالات والدهن والأثيرات لديه، وكان يود أن يطلعهن على ثقافتهن الأم واللاتي هن منفصلات عنها، وينتمين لثقافة تربين ونشأنا عليها منفصلة عن جذورهن.
اليوم التاريخ يعيد نفسه إذ أجلس في المقهى ربما كان هو ذاته الذي أجلسنا فيه والدي، لكن مع اختلاف محطات العمر، واختلاف وجهات النظر بازدياد الوعي المعرفي الإدراكي والثقافي، فما كان مملا ثقيلا بلا أي طعم ولا معنى أصبح رائعا حنونا ممتلئا بالحب والشجن، ومحملا بفهم ذائقة استيعاب وتقدير عبق التاريخ وثقافة التراث ورائحة ذاكرة الوالد المحب التي لا تغيب في وطن لم ننتم إليه إلا من خلال زيارات متقطعة له، نأتي إليه كسياح غرباء عنه نتساءل كم لنا في هذا الوطن من حق؟حقيقة أننا لم نسع للانتماء إليه ولم نحاول الحصول على جنسيته مع أنها تحق لنا وتمكننا من الحصول على حقوق تسهل العيش والسياحة والتملك فيه، لكننا لم نشعر في يوم ما بأننا لنا حق في هذا الوطن المغترب عنا والمغتربين نحن عنه، وكلما نظرت إلى جمال الطبيعة الباذخ فيه كلما صرخ صوت في داخلي قائلا: كم لي من حق فيها.فما الذي يجعل المواطن غير منتم إلى جذره، وما الذي يجعل جذره عائما ومنفصلا وبلا قاع؟ما يكون لنا وطن هو ما تحتضنا أرضه وما نعيش على ترابه الذي نولد عليه وندفن فيه، نتعلم حبه من معايشتنا لعاداته وتقاليده وصحبة أهله، وكم أخذنا منه وكم أعطيناه من عمر الطفولة والصبا والشباب والكهولة، فالوطن والشعور بالانتماء إليه لا ينبع ويأتي فقط من الجذور، وربما لا يكون للجذور أي صلة أو معنى أو قرابة تربطها بالمواطنة، لأن المواطنة ليست ميراثا وحقا فقط يتولد من جد إلى أب إلى ابن وحفيد يحميها قانون وشهادة تثبت أحقيته بالتواجد والوجود فيه، بل المواطنة في رأيي هي الشعور بالانتماء إلى رقعة معينة من أرض يحبها المرء وولد فيها ويعشق العيش بها، ويشعر بالائتلاف مع كل ما فيها من طبيعة وإنسان وحجر، يألفها كما يألف نفسه، ويفهمها كفهمه لذاته، لأن المعرفة والائتلاف هما الجاذب في علاقة العشق والمعشوق، وهما الأساس الذي يقوم عليه هيكل العلاقة والبنيان.لذا نجد كل هؤلاء الذين يولدون ويكبرون في أوطان غير أوطانهم، يصعب عليهم العودة إلى جذورهم والعيش بعد ذلك في أوطانهم، الأمر الذي يعانيه الكثيرون من الذين عادوا إلى أوطان لا يشعرون بجذورهم الممتدة فيها.وهذا ما أسميه جذورا بلا قاع، فالقاع هو الذي يربط النبات العائم بجذره فيثبت في تربة أرض ثابتة مدى حياته وامتداداته من بعدها، لذا نجد بعض النباتات والزهور تتواجد في بعض المواسم في أمكنة لم تُخلق لها، حملها تيار الماء وأوجدها في بيئة أخرى لأن جذورها لم تتشبث في قاعها.وها هي جذور والدي تنفصل بموت أمه الاسطنبولية، ليعاود غرس جذوره والده السعودي في مدينته حائل في أقصى شمال الجزيرة العربية، ليعاود بعدها والدي غرس جذره في الكويت، وليصبح لنا في نهاية رحيل زنابق الماء جذور فيها.
توابل
جذور بلا قاع
24-03-2014