في كثير من الأحيان يترفق الناقد بالتجربة الأولى للمخرج، من قبيل الدعم والتشجيع والمؤازرة، ولإدراكه أن الفيلم الأول لا يخلو، في الغالب، من أخطاء التجربة الأولى.

Ad

لكن الأمر يبدو مختلفاً بدرجة كبيرة في تجربة فيلم {الخروج للنهار} للمخرجة الشابة هالة لطفي، التي درست الاقتصاد والعلوم السياسية ثم الإخراج في المعهد العالي للسينما، وأخرجت‭ ‬ثلاثة‭ ‬أفلام وثائقية‭ ‬(«نموذج تهاني»، «صور من الماء والتراب» و{عن الشعور بالبرودة»). كذلك أخرجت سبعة أفلام تلفزيونية وثائقية لحساب قناة الجزيرة؛ فقد نجحت، بشكل واضح، في تجاوز أخطاء التجربة الأولى، وبدت واثقة من نفسها وموهبتها، وهي تقدم الفيلم من دون تنازلات.

فيلم {الخروج للنهار} كان يحمل، عندما كتبته المخرجة في العام 2008، عنوان {الجلطة}، وحصلت عنه على منحة إنتاج من الصندوق العربي للثقافة والفنون، ورغم أن  عنوان {الجلطة} يعكس مباشرة أزمة عائلة أصيب عائلها بجلطة في المخ إلا أن عنوان {الخروج للنهار} يُعد أكثر شمولية وإنسانية؛ كونه يُكرس الرغبة اليائسة في الخلاص من الفقر والبؤس والتعاسة والعتمة وشبح الموت الذي يُظلل حياة أسرة صغيرة تتكون من الأم {حياة} (سلمى النجار) والابنة {سعاد} (دنيا ماهر) والأب (أحمد لطفي) الذي أقعدته الجلطة، وصار {رهين المحبسين}: الفراش والكرسي المتحرك، بينما تعيش البنت وأمها حياة رتيبة تتناوبان خلالها تمريض الأب، وتغيير ثيابه وملابسه الداخلية، وملاءات فراشه، والتفرغ له كي لا يتعرض لمكروه ليس في الحسبان الأمر الذي تسبب في إرهاقهما، الذي ظهر جلياً في توتر علاقتهما، وتوقهما إلى التواصل مع الواقع، الذي توقفت علاقتهما به عند مجرد إطلالة من الشرفة أو التطلع إليه عبر النافذة أو الغلالة التي تبدو رقيقة وشفافة لكنها تمثل حاجزاً يحول بينهما و{الخروج للنهار}!

هنا لا تستطيع أن تتجاهل أمرين؛ أولهما تواضع حال الأسرة، وهو ما عبر عنه الأثاث المتهالك والأجهزة عتيقة الطراز (التلفزيون والبوتاجاز والغسالة) والصنبور العتيق وأدوات المطبخ والحمام التي عفا عليها الزمان (مهندسة الديكور شهيرة ناصف)، كذلك عجز الأم وابنتها عن شراء مرتبة طبية تُخفف عن الأب آلامه، وثانيهما علاقة الحب القوية من جانب البنت وأمها تجاه الأب، الذي يبدو أنه لم يُقصر تجاهما يوماً، ومن ثم جاءت لحظة رد الجميل، مهما كانت قسوتها، ومهما كان حجم التضحية التي تبذلاها؛ فالأم (لاحظ أن اسمها {حياة}) أنهكها التمريض في المستشفى والمنزل، وانعكس هذا على وجهها الشاحب والهالتين السوداوين أسفل عينيها، وإهمالها الاهتمام بنفسها، وهي حال الابنة {سعاد} التي فاتها قطار الزواج، ولما تعلقت بعربته الأخيرة صُدمت في فتاها المراوغ، ولم تتردد في قطع علاقتها به؛ فالمرأة عند هالة لطفي تتمتع بشخصية قوية في لحظات ضعفها وقوتها، وفي ذروة حبها الإنساني وكذلك خيبتها العاطفية؛ فالخواء العاطفي لا يمنع الفتاة من رفض ابنة خالتها (جلال البحيري) والفقر لا يحول دونها والتعاطف مع المُعذبين في الأرض، سواء الذين رفض سائق الميكروباص (أحمد شرف) أن يُقلهم في ساعة متأخرة من الليل، أو فتاة الميكروباص (دعاء عريقات)، التي ظلمها المجتمع الجاهل مرة عندما أجبرها على ارتداء الحجاب بحجة أن الشيطان يتلبس الفتاة عارية الرأس، ومرة أخرى عندما أدخل في روعها أن الحسد وزوجة أبيها كانا السبب في عنوستها. ولما فشلت في التعامل مع المشايخ المتخصصين في {فك السحر} لجأت إلى القساوسة، وهذا المشهد بالمناسبة أحد أفضل مشاهد الفيلم وأكثرها رقة وعذوبة وشجناً، لكن أفسدته الكاميرا (محمود لطفي) التي لم تتجنب، في سعيها إلى الإيحاء بواقعية المشهد، كم {القفزات} التي أصابت الصورة وأفقدت المشاهد تركيزه في الحوار الذي تعمدت المخرجة، وهي نفسها كاتبة الفيلم، أن يتسم بالإيجاز والتكثيف (مونتاج هبة عثمان) بينما كان اعتمادها كبير على الصورة التي أدت الإضاءة دوراً كبيراً فيها، واهتمامها واضح بالتفاصيل الصغيرة، كالمرآة القديمة التي ترصد الملامح الباهتة والوجوه الشاحبة، وتوظيفها دقيق ومتقن لأغنية «ظلمنا الحب» لأم كلثوم، وللملابس (تصميم نيرة الدهشوري) التي جاءت معبرة عن ثقافة الشخصيات الدرامية وطبقتهم.

 لا أراهن على نجاح فيلم «الخروج للنهار» الجماهيري؛ فالانفعالات الصادقة والمشاعر التي لا تعرف الزيف أو المبالغة، فضلاً عن حرص المخرجة على تكريس القيم الإنسانية والجمالية، ليست الحيثيات التي يمكن أن تكون سبباً في تجاوب جمهور فسد ذوقه مع التجربة التي تحمل بذرة تمرد واضحة. لكن شيئا من هذا لا ينبغي أن يحول دون استمرار هالة لطفي في تحقيق الفيلم الذي يعبر عنها، وألا يتسبب إخفاق تجربتها الإنسانية في «الخروج للنهار»، حال تراجع الإيرادات، في إجبارها على التفريط في استقلالها، وتقديم التنازلات التي يطلبها السوق الفاسد وأباطرته؛ ففي كل الأحوال سيظل «الخروج للنهار» علامة فارقة بمعنى الكلمة.