صدمة يهود فرنسا

نشر في 05-08-2014
آخر تحديث 05-08-2014 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت "الموت لليهود!" في باريس ومدن فرنسية أخرى دَوَّت هذه الكلمات المليئة بالكراهية، وللمرة الأولى منذ مسألة درايفوس في نهاية القرن التاسع عشر استهدفت الهجمات معابد يهودية، وفي الضواحي القريبة من باريس، في بلدة سارسلز المعروفة بمناخها الذي يسوده التسامح الديني والعرقي، استهدفت مجموعات من الشباب عمداً ممتلكات يهودية.

في مواجهة الارتفاع المذهل للنزعة الشعبوية المعادية للمهاجرين في فرنسا، والآن مع المظاهرات المناهضة للصهيونية- التي تتزامن عادة مع نسخة محدثة من معاداة السامية- تعاني الطائفة اليهودية العذاب والحيرة. ويسأل بعض أعضائها أنفسهم في صمت ما إذا كان لهم مستقبل في بلد حقوق الإنسان. الآن يعيد اليهود الفرنسيون اكتشاف الصدمة المزدوجة التي أصابتهم خلال القرن العشرين: الترحيل إلى معسكرات الموت في الحرب العالمية الثانية وفرارهم من الجزائر بعد استقلالها في عام 1962، ومن المتوقع أن تلون سلسلة الأحداث هذه مشاعر الحاضر، وتميل إلى تأجيجها. الحق أن الفرنسيين من أحفاد يهود أوروبا الشرقية لم يتصالحوا بشكل كامل بعد مع القارة- بما في ذلك فرنسا إبان حكم نظام فيشي- التي ما زالوا يربطونها بالهولوكوست (المحرقة)، في حين يميل اليهود من أصول مغربية إلى الاستياء إزاء حقيقة مفادها أنهم حتى في فرنسا ما زالوا محاطين بـ"العرب"، والواقع أن نسبة كبيرة من أبناء الطائفة اليهودية في جنوب فرنسا يصوتون للجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، التي ركزت كراهيتها للأجانب، تحت زعامة مارين لو بان، ضد المسلمين. وليس من المستغرب في مثل هذه الأجواء المتوترة أن يعود التساؤل حول ما إذا كانت معاداة السامية عادت إلى فرنسا بعد انقطاع دام سبعة عقود من الزمان لكي تحتل العناوين الرئيسية الدولية، وقد تحدثت تقارير إعلامية بريطانية وأميركية عن تشابه بين ما يجري في الوقت الحاضر وما جرى في عصر النازية، حتى إن بعض هذه التقارير أشارت في أعقاب الهجمات على المعابد اليهودية في فرنسا إلى ليلة الكريستال الفرنسية.

الواقع أن مثل هذه المبالغات لا بد أن تُرفَض بكل حزم، لأنها تسيء إلى ذكرى أولئك الذين عانوا تحت حكم نظام فيشي نتيجة لتعاون فرنسا مع ألمانيا النازية، فبعد اعتقال الجستابو (البوليس السري النازي) لوالدي في نيس عام 1943، اصطحبه رجال شرطة فرنسيون إلى معسكر انتقالي في درانسي بضواحي باريس قبل أن يتم ترحيله إلى أوشفيتز. وعلى النقيض من هذا، تدافع الدولة الفرنسية في عام 2014 عن المعابد اليهودية وتدين أي شكل من أشكال معاداة السامية. ولكن إذا لم تكن الدولة الفرنسية معادية للسامية، فإن معاداة السامية موجودة في فرنسا، وربما بشكل أكثر كثافة من وجودها في فترة ما بعد الحرب، وبطبيعة الحال، لعب الوضع المتدهور في الشرق الأوسط دوراً رئيسياً في هذا، وخاصة المشاهد والصور الصادمة من غزة، والواقع أن الحرب غير المتكافئة التي تشنها إسرائيل هناك تبدو في نظر أغلبية الرأي العام العالمي، وليس الرأي العام العربي والمسلم فحسب، مفرطة في القسوة. من المؤكد أن أي دولة من غير الممكن أن تتقبل بسلبية الهجمات الصاروخية على مدنها، صحيح أن "حماس" تختار عامدة متعمدة وضع ترسانتها العسكرية في مناطق مكتظة بالسكان تحت الدرع الواقية غير الطوعية من المدنيين الأبرياء، أو أولئك الذين يشير إليهم المسؤولون الإسرائيليون بقدر من عدم الثقة الذي لا يخفونه إلا بالكاد بوصفهم "غير المتورطين"، لكن استراتيجية الرعب التي تستخدمها السلطات الإسرائيلية لردع المزيد من الهجمات أو استعادة "الهدوء" المؤقت كانت مكلفة، ليس فقط من حيث الخسائر في أرواح الفلسطينيين والجنود الإسرائيليين القتلى؛ بل إنها أسهمت أيضاً في تدهور أمن اليهود في مختلف أنحاء العالم، وفي فرنسا أيضا، يُعرِب كثيرون من اليهود- بصوت خفيض غالبا- عن حبهم العميق لإسرائيل ككيان وفي الوقت نفسه يتحدثون عن انزعاجهم الشديد إزاء ما تفعله إسرائيل الآن. قد يقول قائل إن الصراع في الشرق الأوسط يجب ألا يُـصَدَّر إلى فرنسا، لكن من الأهمية بمكان أن ندرك التأثير المحتوم الذي تخلفه صور النساء والأطفال الفلسطينيين القتلى على الطوائف الفرنسية التي تشعر بأنها قريبة من فلسطين بقدر ما يشعر اليهود بأنهم قريبون من إسرائيل، وإذا بدا الأمر وكأن الصور القادمة من غزة تلقى اهتماماً أوسع في فرنسا، فإن هذا يرجع جزئياً إلى حسابات رقمية محضة: فهناك تواجه أكبر طائفة مسلمة في أوروبا أكبر طائفة يهودية في أوروبا. لكنها ليست مجرد مسألة أرقام، ذلك أن قُـطاَّع الطرق الأحداث الذين هاجموا المعابد اليهودية ينتمي أغلبهم إلى صفوف العاطلين عن العمل والمحبطين، وهم ينفسون عن غضبهم من نظام لا يسمح لهم بالاندماج في المجتمع. حتى إنهم يشعرون بالسخط والاستياء من إحياء الجمهورية الفرنسية لذكرى معاناة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، ففي نظرهم ليست أهوال الماضي أكثر من وقائع مجردة؛ وأهوال الحاضر فقط هي الملموسة.  لا ينبغي لنا أن نسمح للمواجهة بين صور الشرق الأوسط اليوم وسُخط الأقليات المسلمة (التي تتأثر في بعض الأحيان بأيديولوجيات أصولية متطرفة) بحجب معاداة السامية والبرجوازية التقليدية في فرنسا، والتي لا تزال قائمة وليست بعيدة تحت السطح، فبفضل الإنترنت بدأت هي أيضاً تظهر بشكل أكثر تكرارا. ولكن الدولة الفرنسية تفعل ما ينبغي لها أن تفعل لقمع واحتواء معادة السامية، والمقارنة بأوروبا في عصر النازية لا تجدي على الإطلاق في إعادة الطمأنينة إلى مجتمع غير قادر على التخلص تماماً من شعوره بأنه يرقص على حافة بركان، رغم كل الاختلافات التاريخية الكبرى بين الماضي والحاضر.

* دومينيك مويزي | Dominique Moisi ، أستاذ في معهد الدراسات السياسية في باريس.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top