يظن الناس عموماً أنهم يتصرفون بأقصى درجات الاحترام حين يشكرون البائع، أو يلقون التحية على سائق الحافلة، أو يهتمون بكتبهم بعد استعارتها، أو يسمحون للمشاة بعبور الشارع... ويظن الناس أيضاً أن رضوخ الآخرين لهم يجعلهم يفرضون احترامهم على الغير. كذلك يعتقدون أن بث الخوف في نفوس المحيطين بهم يفرض احترامهم عليهم. لكن من السخافة أن نخلط بين الاحترام من جهة والتهذيب أو الاهتمام أو الرضوخ أو الخوف أو أي عامل آخر من جهة أخرى. إذا لم نحترم معنى {الاحترام} الحقيقي، فلن نجيد تطبيقه كما يجب.
ما معنى الاحترام؟يتحدث الجميع يومياً عن مفهوم الاحترام في كل مكان... أو بالأحرى عن قلة الاحترام! هذه القيمة لها طابع عالمي حتماً. من واجب كل إنسان أن يُظهر الاحترام للآخر بغض النظر عن أصله وثقافته ودينه وبيئته الاجتماعية ومنصبه المهني. يعني الاحترام القدرة على استيعاب الأمور المعلنة والمتعارف عليها في الماضي ومواجهة النتائج في الزمن الحاضر. قد تتعلق المسألة مثلاً باحترام وعد قطعناه سابقاً، أو احترام عقد مبرم، أو احترام قواعد لعبة معينة. في هذه الأمثلة، يعكس الاحترام القدرة على تذكّر اللحظة التي التزم فيها الفرد بالوعد الذي قطعه أو ببنود العقد الذي وقّعه أو بمبادئ اللعبة التي يخوضها.يتخذ الاحترام الذي نعامل به الناس معنىً أقرب إلى تقدير الذات، وهو يستند إلى القدرة على تذكّر الأفعال التي قمنا بها سابقاً، حين نتأكد من أن تلك الأفعال محقة. يجب ألا يخلط أحد بين الاحترام والتسامح، إذ تختلف دوافع التسامح الذي يمكن أن يعكس مشاعر الازدراء أحياناً. يُقال بشكل عام إن الاحترام يُكتَسب، لكن يعرّف بعض الخبراء الاحترام باعتباره شكلاً من التهذيب المجرّد من النفاق والمواقف المتحيزة التي تطبع التهذيب التقليدي.قيمة أخلاقية؟حين يُعتبر الاحترام قيمة أخلاقية، فهو يشير إلى مراعاة الآخر كشخص بحد ذاته. لكنه قد يعكس أيضاً شعوراً معيناً، بمعنى أن ينشأ رابط محدد يجمعنا بفرد معين وليس بجميع الأفراد بغض النظر عن هويتهم. عموماً، تعود الأسباب التي تبرر احترامنا للآخرين إلى منطق قانوني. عملياً، القانون هو الذي يفرض علينا أن نتبادل الاحترام، وذلك بهدف تنظيم المجتمع من خلال رسم حدود الحريات الفردية. بحسب هوية الآخر وطبيعة أفعاله ووجوده والأهداف التي تحققها أعماله لبناء البشرية، يتضح إلى أي حد يستحق ذلك الفرد احترامنا، على أن يعاملنا بالاحترام الذي نستحقه منه أيضاً.أشكال مختلفة• احترام الذات: يبدأ كل احترام باحترام الذات واحترام الجسم والروح والمشاعر الخاصة. يعني احترام الذات تقبّل طبيعتنا، بإيجابياتها وسلبياتها. يجب ألا نسمح بأن تُفرَض علينا أمور لا تتماشى مع قيمنا أو لا تناسب قناعاتنا. لذا يجب أن نتعلم ضرورة الرفض في بعض الحالات من دون إصدار الأحكام على الغير. يعني احترام الذات أيضاً اتباع نمط حياة سليم وتوفير غذاء صحي للجسم وممارسة الرياضة المنتظمة وتخصيص ساعات كافية للنوم.• احترام الآخرين: احترام الآخرين (بما في ذلك احترام شكلهم وراحتهم وآرائهم...) هو عامل أساسي في الحياة الاجتماعية. عند احترام أي شخص، يجب معاملته بتهذيب وتقدير تفادياً لإيذائه أو إصدار الأحكام المسبقة عليه. لا يمكن أن ندعي أننا نحترم الآخرين إذا كنا لا نحترم أنفسنا في المقام الأول. يمكن أن تنعكس قلة الاحترام بتصرفات عدة: التصادم بين السائقين، إقدام أصحاب الكلاب على السماح لحيواناتهم بتوسيخ الأرصفة، التدافع بين الناس، سماع ضجة دائمة عند الجيران...• الاحترام الجماعي: هذا النوع من الاحترام هو مجموعة من القواعد والقوانين التي تصوّت عليها كل حكومة أو مدينة أو مجتمع. يعني الاحترام الجماعي بكل بساطة تقبّل تلك القوانين وتطبيقها لضمان العيش وسط الجماعة واحتضان الآخرين، بغض النظر عن لونهم أو دينهم أو مكانتهم الاجتماعية. قد لا نوافق دوماً على جميع القوانين. لكن إذا أردنا العيش ضمن المجتمع، من الأفضل الالتزام بها. لكن يتم انتهاك القوانين والتنظيمات بشكل يومي للأسف، بدءاً من قوانين السير.في الحياة اليوميةينص أحد القوانين على ضرورة احترام حق كل فرد بالحفاظ على حياته الشخصية. تشمل الحياة الشخصية كل ما يلامس الجوانب الحميمة في حياة الإنسان: الصحة، العادات، الحياة العاطفية، المشاعر، الأصول العرقية...• العائلة: الاحترام ظاهرة اجتماعية، وتشكّل العائلة جزءاً من الحياة الاجتماعية الأولى. خلال هذه المرحلة تحديداً، يكتسب الطفل لغته ومعاييره الثقافية الأساسية. لا بد من اكتساب معنى الاحترام منذ السنوات الأولى، وذلك بطريقة سلسة إنما صارمة. لا شك في أن دور الأهل الأساسي يتعلق بتوفير الحب للأولاد، لكن لا يعني ذلك عدم تلقينهم مبدأ الاحترام.من خلال احترام الأولاد، يسمح لهم أهاليهم بالنمو وببناء شخصيتهم بفاعلية. يجب أن يتعلم الأولاد أن يحترموا بيئتهم والآخرين، والأهم هو أن يحترموا أنفسهم. من خلال الإصغاء إليهم، يثبت لهم الأهل أنهم يكنّون لهم الاحترام. كذلك سيتعلّمون بذلك أن يصغوا إلى الآخرين وأن يتوقفوا عن حصر تركيزهم بذواتهم أو بألعابهم أو برفاقهم. ومن خلال العيش مع الآخرين، يمكن أن يتعلموا احترامهم. من هنا تبرز أهمية العائلة في حياة الأولاد.لا بد من إعادة موضوع الاحترام إلى الواجهة إذاً. الاحترام لا يُفرَض على الناس بل يُكتَسب. وهو لا ينجم عن التسلط ولا التساهل باسم الحرية، بل إنه يتأثر بسلوك الأهل أو المعلمين حين يتولون دور القيادة في حياة الأولاد ويُظهرون الاحترام لهم ولذواتهم. في بداية هذا القرن الجديد، وبعد التخلي عن بعض القيم التي تعكس النزعة المتسلطة ثم اختبار القيم التي مهدت لتسلط الأولاد على أهلهم، يسعى عدد كبير من الأهالي والمعلمين والأساتذة إلى إقامة علاقات مبنية على الاحترام مع الأولاد أو المراهقين أو التلامذة.• التعليم: ما إن يسجل الأهالي أولادهم في المدرسة، ينقلون مسؤولية تعليمهم الاحترام إلى المعلمين. يجب أن تتحول المدرسة إلى مكان يوفر فرصة الاطلاع على ثقافات أخرى، كي يفهم التلميذ خاصيات كل ثقافة ويتعلم احترامها. تعلّم المدرسة ضرورة تبادل الاحترام مع الجميع، بغض النظر عن انتمائهم اللغوي أو الثقافي أو الإثني أو الديني. هكذا يتعلم الأولاد أن يعيشوا معاً وأن يعترفوا بحدود حريتهم. تكون مسألة الاحترام دقيقة في المدارس أكثر من أي مكان آخر.• الحياة المهنية: تعكس المهنة طبيعة الحياة التي نعيشها عند تولي منصب معين أو ممارسة نشاط يضمن إشباع الحاجات. داخل أي مؤسسة، يرتكز العمل على قواعد يحددها رب العمل استناداً إلى مبادئ العدل. تهدف هذه القواعد إلى ضمان حسن سير الشركة. لكن ثمة قواعد أخرى ضمن المؤسسات وهي بالغة الأهمية بالنسبة إلى راحة الموظفين وإنتاجيتهم: هي جزء من قواعد الحياة وتشمل الاحترام والانتباه والدقة. يبدأ كل شيء بإلقاء التحية على الزملاء ورب العمل عند الوصول إلى مكان العمل، فضلاً عن توفير بيئة تضمن المعاملة الحسنة والتأكيد على الاستعداد لمساعدة الآخرين عند الحاجة.ماذا يحصل حين يغيب الاحترام؟شتائم أثناء القيادة، نظرات غاضبة، تهديدات متواصلة، مضايقة المسنين... في مجتمعنا المعاصر، يبدو أن الاحترام بدأ يتبخر. وتبدو فئة الشباب على وجه التحديد أقل احتراماً اليوم مقارنةً بالسابق. ضمن شريحة واسعة منهم، لوحظ تراجع منسوب احترام السلطة أو الأساتذة أو المسنين أو أصحاب المناصب أو أفراد العائلة... بدأ احترام المسنين يفقد أهميته مع أن كل إنسان يستحق الاحترام بغض النظر عن سنه. يجب أن يشعر شباب اليوم باحترام الآخرين لهم كي يتمكنوا من مبادلتهم الاحترام. بالنسبة إليهم، يستحيل أن يحترموا شخصاً لا يحترمهم حتى لو كان كبيراً في السن. يخوضون علاقات مبنية على مصالحهم الشخصية حصراً، وذلك نتيجة تربية متساهلة ومختلفة عن نهج التربية قديماً، بتأثير من الأهل والمدرسة على حد سواء. لكنّ هذه المشكلة لا تعني الشباب وحدهم، بل إن المجتمع ككل بات يميل إلى فقدان مظاهر اللياقة والتهذيب.البدء بتصحيح الذاتلتعلم احترام الآخر، تقضي الخطوة الفاعلة بالبدء بتصحيح الذات:يفترض احترام الذات أخذ المجازفة للتعريف عن الهوية الشخصية، أي إثبات الذات وحتى مواجهة الذات عند الضرورة للتعامل مع علاقات القوة التي نعيشها ولا تكون دوماً إيجابية.يبدأ احترام الذات غالباً بصراع داخلي وشخصي سرعان ما يتم إسقاطه على شخص مقرّب فيتحول حينها إلى تفاعل بين الأفراد.يفترض احترام الذات التمتع بالقدرة على الرفض في بعض المواقف، وبالتالي المجازفة بإزعاج المقربين منا أو الأشخاص المهمين في حياتنا.يعني احترام الذات تقبّل الخيبة التي يمكن أن تحيط بنا حين نعبّر عن اختلافنا عن الآخرين.احترام الذات هو نهج يعكس حب الذات في كل مرة يكون فيها ما نفعله أو نقوله متماشياً مع ما نواجهه.احترام الذات هو نهج بطيء يهدف إلى التكامل مع الآخر ولكنه لا يرتكز على الإرادة الشخصية بكل بساطة بل يصبح جزءاً من صراع يومي.باختصار، يبدو بلوغ مرحلة احترام الذات من أجمل المكافآت التي يمكن أن نحصل عليها في حياتنا، لأن احترام الذات يحتّم احترام الآخرين. يُعتبر الاحترام إذاً عاملاً ضرورياً لضمان حياة سليمة في المجتمع وتناغم عائلي واجتماعي. من خلال زيادة مستوى الحب، يرتفع منسوب الاحترام طبعاً. إذا كنا نحب الآخرين، يعني ذلك أن نتنبّه إليهم وإلى حاجاتهم وأن نراعي مشاعرهم، وسرعان ما يأتي الاحترام تلقائياً بعد تلك المرحلة. يجب أن نحرص إذاً على تذكّر قيمة احترام الذات واحترام الآخرين، وهي ركيزة المجتمع الإنساني المترابط والمتسامح.
توابل
مفاتيح الاحترام...
31-05-2014