هل يتحطم حلم بوتين الإمبراطوري على شواطئ شبه جزيرة القرم؟

نشر في 14-03-2014
آخر تحديث 14-03-2014 | 00:01
الغرب الذي يحلم بتعاون بوتين في الشأنين السوري والإيراني، متردد في الضغط عليه بقوة، لكن قد تكون مغامرة الرئيس الروسي في القرم، لا السفارة الأميركية في موسكو، سبب سقوطه.
 نيويوركر في عام 1990، خرج ألكسندر سولجنيتسين من عزلته في كافنديش بفيرمونت وقدّم طرحاً عميقاً بعنوان "كيفية إعادة إنعاش روسيا". بدا هذا التقرير، الذي نشرت صحيفة Komsomolskaya Pravda الجزء الأكبر منه، متجاوزا نطاق الزمن آنذاك، فقد كتبه سولجنيتسين بلهجة تنبؤية تذكّر بالقرن التاسع عشر، مستخدماً تعابير قديمة ونبرة حازمة. لطالما اعتُبر هذا المنشق البطل متطرفاً في نظرته القومية، إلا أنه لم يدعُ في هذا التقرير إلى نهضة قيصرية أو إمبراطورية استعمارية، بل إلى سياسة ديمقراطية محلية شبيهة بالنموذج السويسري، وانتقال إلى الملكية الخاصة، وتفكيك الاتحاد السوفياتي.

كتب سولجنيتسين: "لا نملك الطاقة الكافية لندير إمبراطورية، لنتخلص من هذا العبء الذي يسحقنا ويستنفد قوانا ويسرّع هلاكنا"، فكان على ليتوانيا، ولاتفيا، وإستونيا، فضلاً عن جمهوريات القوقاز، أن تشق طريقها بمفردها، ولكن في المسألة الأوكرانية، كان له وجهة نظرة مختلفة، فقد أشار سولجنيتسين إلى ضرورة أن تشكّل روسيا محور "اتحاد روسي"، وأن تكون وأوكرانيا جزءاً لا يتجزأ منه.

في تلك الفترة، كان القوميون الأوكرانيون، خصوصاً في الجزء الغربي من الجمهورية، يحاولون الانضمام إلى دول البلطيق في سعيها الجريء إلى الاستقلال، فشكّلوا "حركة الشعب" الأوكرانية، وفاز ليونيد كرافتشوك، عضو الحزب الشيوعي الذي لم يكترث سابقاً بالقومية الأوكرانية، في الانتخابات الرئاسية عام 1991 لأنه قرر الوقوف إلى جانب هذه الحركة، لكن سولجنيتسين في غابات نيو إنغلاند والكثير من الروس في أرجاء الاتحاد السوفياتي المختلفة لم يستطيعوا تقبّل هذا الميل بسهولة، خصوصاً أنه عارض فهمهم التاريخي، فأوكرانيا لا تشكّل في نظرهم أمة حقيقية، تماماً مثل غلوبدوبدريب وفريدونيا.

 كان فلاديمير بوتين (العضو السابق)، في الاستخبارات السوفياتية، أول قائد روسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي يقدّم جائزة حكومية إلى سولجنيتسين، الذي أمضى جزءاً كبيراً من حياته وهو يخوض صراعاً مميتاً ضد الاستخبارات السوفياتية. لكن القاسم المشترك الذي جمع بين سولجنيتسين وبوتين يعود في جزء كبير منه إلى مفهوم غير متقن عما يجب أن تضمه روسيا، فقد أخبر بوتين الرئيس جورج بوش الابن: "عليك أن تفهم يا جورج أن أوكرانيا لا تشكّل بلداً حتى".

كوّن سولجنيتسين، أحد أهم ناشري الحقائق في القرن العشرين، نظرة إيجابية مبالغاً فيها عن إحدى أخطر شخصيات القرن الحادي والعشرين. فبوتين حاكم مستبد وقح، وقد أخفى الثراء الفاحش للأوساط السياسية المحيطة به بنشره صورة عن نفسه كرجل حذق يتمتع بالشجاعة والبسالة، كذلك ترتكز شخصية بوتين على كل ما يكرهه، فقد ساهمت شكوكه الكبيرة حيال دوافع الغرب وريائه في تأجيج سخطه بشأن الانتفاضة في كييف، وأثرت في قراره اللاحق غزو القرم. حتى إن هذا الرئيس الروسي رأى في توسع حلف شمال الأطلسي نحو الشرق، والهجمات على سجله المخزي في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني، والثورتين "الملونتين" في تبليسي وكييف (فضلاً عن الثورات في طهران، وتونس، والقاهرة، والمنامة، ودمشق) تلميحات سلبية إلى أخلاقه السياسية. كذلك يعتبر بوتين كل الأشياء، من "الصندوق الوطني الديمقراطي" إلى السفارة الأميركية في موسكو، مواقع متقدّمة للتآمر ضده، ولكن بما أن الولايات المتحدة ترغب بكل الوضوح في الحد من نفوذه، فلا يمكننا الادعاء أنه مجنون بالكامل في تفكيره هذا. إذاً، بعد أن شكّلت الألعاب الأولمبية تأكيداً للنفوذ الروسي على المستوى الشعبي كلّف مليارات الروبلات، جاء غزو القرم ليؤكد النفوذ الروسي، معتمداً على التهويل والقوة العسكرية.

تطلب هذا الغزو الإدانة: فأوكرانيا دولة ذات سيادة، وهكذا كانت منذ جيل، ومن المؤكد أن روابطها الثقافية واللغوية والتاريخية مع روسيا لا تجعلها أداة روسية، ولا شك أن حجة بوتين (تعرّضَ حشود الناطقين بالروسية الخائفين في القرم وشرق أوكرانيا لتهديد جسدي من قبل "الفاشيين"؛ لذلك راحوا يطالبون روسيا "بمعونة أخوية") وهمٌ حاكته أجهزة استخباراته ونشره التلفزيون الحكومي الروسي (لا يُعتبر القوزاق الموالون لروسيا في القرم أقل معاداة للسامية من المتطرفين بين القوميين الأوكرانيين، علماً أنك لن تكتشف هذا الواقع بمشاهدة القناة الأولى في موسكو).

أخذ اعتداء بوتين القادة الغربيين، خصوصاً باراك أوباما وأنجيلا ميركل، على حين غرة، لكنهم تصرفوا منذ ذلك الحين بوضوح وحذر، فلا شك أن قرار التخلي عن التهديدات العسكرية والتركيز على العقوبات الاقتصادية القوية والمساعي الدبلوماسية حكيم في عالم الخيارات المحدودة الذي نعيش فيه. ولكن لم يبد كل المعنيين مباشرة بهذه الأزمة فهماً دقيقاً لسياسات أوكرانيا المعقدة، فمن الضروري أن نتذكر أنه في كل التقلبات التي شهدتها الحكومات الأوكرانية، كان القادة الموالون لروسيا، مثل فيكتور يانوكوفيتش، والموالون لأوروبا، مثل يوليا تيموشينكو، لصوصاً وقحين، مكدسين الثروات بسرعة مهولة، فقد ألب كلا الطرفين نصف البلد على النصف الآخر، ولا يعني واقع أن التظاهرات في كييف لم تكن، كما تدعي موسكو، خاضعة لسيطرة الفاشيين والقوميين المتطرفين أن هذه العناصر غائبة عن المشهد الأوكراني، فلم تحظَ أوكرانيا بعد بنوع السياسيين الذي يحتاج إليه وضعها الهش واقتصادها المتعثر. على سبيل المثال، عندما خاطب جون ماكين في شهر ديسمبر الماضي المتظاهرين في ميدان الاستقلال في كييف، وقف إلى جانب أولي تيانيبوك الذي طُرد سابقاً من حزبه في البرلمان لأنه طالب بمحاربة "المافيا اليهودية الموالية لموسكو". لعل هذه كانت زلة كبيرة من فريق ماكين، تماماً مثل ترشيح سارة بالين، إلا أنها ساهمت في تأجيج نيران شكوك موسكو.

عانى حلفاء ماكين في مجلس الشيوخ الميل ذاته إلى المواقف غير الحذرة، فقد أعلن ليندسي غراهام من كارولاينا الجنوبية، الذي يواجه تحدياً من اليمين الذي ينتمي إليه في الانتخابات الأولية الجمهورية، أن غزو القرم "بدأ في بنغازي"، ثم غرّد على موقع تويتر: "عندما تقتل الأميركيين ولا تدفع الثمن، تفتح المجال أمام اعتداءات مماثلة". أما ماكين، الذي يشكّل مع غراهام صوت الحزب الجمهوري في الشؤون الخارجية، فقد أخبر لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك) أن الغزو يشكّل "النتيجة النهائية لسياسة خارجية متهورة. فما عاد أحد يؤمن بقوة الولايات المتحدة"، وما هي إلا فترة قصيرة حتى انضمت هيلاري كلينتون، التي يُفترض أن تكون أكثر خبرة من غيرها، إلى هذه المجموعة بتشبيه سيئ عن هتلر.

ما زال بوتين متمسكاً اليوم بتعاليه وعجرفته المعهودين، فالمعارضة التي يواجهها في الداخل معلقة اليوم، خوفاً من عملية قمع شاملة، أما الغرب الذي يحلم بتعاون بوتين في الشأنين السوري والإيراني، فمتردد في الضغط عليه بقوة، ولكن قد تكون مغامرته هذه في القرم، لا السفارة الأميركية في موسكو، سبب سقوطه، فقد أظهر استطلاع للرأي رعاه الكرملين الشهر الماضي أن 73% من الروس يعارضون التدخل في المواجهات السياسية في كييف، لكن الكرملين برهن منذ ذلك الحين أنه يملك القدرة ووسائل الإعلام الضروريتين لتقديم الدعم لمغامرات بوتين. إلا أن هذا الوضع لن يدوم إلى ما لا نهاية.

بكلمات أخرى، يخاطر بوتين بعزل نفسه لا عن الغرب وأوكرانيا فحسب (هذا إذا لم نتحدث عن الاقتصاد العالمي الذي يتوق إلى الانضمام إليه)، بل عن روسيا بحد ذاتها أيضاً. إذاً، قد تتكسر أحلامه بأن يبقى في الحكم حتى عام 2024، وبأن يكون القائد الأعظم في تاريخ روسيا منذ عهد بطرس الأكبر على شواطئ شبه جزيرة القرم.

David Remnick

back to top