منذ أن أعلن الاحتياطي الفدرالي قراره بتخفيض مشترياته من الأصول بمقدار عشرة مليارات دولار شهرياً، استهانت الأسواق إلى حد ما بالأنباء التي تقول إن بداية الانسحاب التدريجي -الذي يشعر الناس بالهلع منه منذ وقت طويل- من مشتريات الأصول قد حانت. هذه الاستجابة المتهاونة لتقليص البنك لمشترياته من سندات الخزانة الأميركية والأوراق المالية المدعومة بالقروض العقارية تأتي في مقابل هزات عالمية وقعت من مجرد إمكانية الانسحاب التدريجي، التي ألمح إليها بن برنانكي في مايو ويونيو 2013.

Ad

ومن المؤكد أن رد الفعل الإيجابي هو إلى حد ما علامة على بعض الانتعاش في الاقتصاد. فقد ارتفع معدل بناء المساكن الجديدة، وإن كان معدل الناس الذين يتقدمون بطلبات جديدة للحصول على قروض عقارية لشراء المساكن أضعف بكثير من ذي قبل، ما يشير إلى أن الطلب من المستخدمين النهائيين الحقيقيين يظل واهياً. كذلك تراجع معدل البطالة، لكن التحسن في المعدل يعود في معظمه إلى الحقيقة التي تقول إن نسبة المشاركة مستمرة في الهبوط. وعلى مدى 43 شهراً متواصلاً، كان عدد الناس الذي يغادرون القوة العاملة أكبر من الذين دخلوها، كما تشير بيانات من «CLSA».

فائدة صفرية

لكن قسماً كبيراً جداً من ارتفاع الأسهم وأسواق السندات الخطرة يعود إلى استمرار التزام الاحتياطي الفدرالي بأسعار الفائدة الصفرية. وحين يقلص البنك من مشترياته بمقدار عشرة مليارات دولار شهرياً، فإن ذلك يعني أموراً أقل بكثير من وعده بإبقاء أسعار الفائدة منخفضة لفترة أطول من أي وقت مضى. إن طبق الحلوى، الذي ظهر في البداية كأنه بدأ يتناقص هذا الشهر، هو أكثر امتلاءً مما توحي به النظرة الأولى.

ووعَد بيان اللجنة الفدرالية للسوق المفتوحة السوقَ بأن يبقي سعر الإقراض بين المصارف ليلة واحدة قريباً من الصفر إلى فترة «زمنية لا بأس بها» بعد أن يتراجع معدل البطالة إلى 6.5 في المئة، وهو تعبير يعني في رأي مايكل فيرولي، وهو اقتصادي لدى بنك جيه بي مورغان، أن البيان «يشير إلى توقعات بأن تكون أسعار الفائدة للعامين 2015 و2016 أدنى نوعاً ما من التوقعات المنشورة في سبتمبر. على ما يبدو المقصود من كل هذه التغييرات هو تخفيف وقع الضربة الناجمة عن البدء في عملية التفكيك التدريجي للتوسع في الميزانية العمومية للاحتياطي الفدرالي».

هذا يعني أن البنك يؤكد رسالته إلى الأسواق بأن تستثمر في الأصول المالية الخطرة، ويفضل أن يكون ذلك بأموال مقترضة. وأكبر المستفيدين من الأموال السهلة هم المضاربون الذين يستخدمون الأموال المقترضة- وهذا الوضع ليس في سبيله إلى التغير. والحرب بين السيولة التي تدفع بالأسواق إلى أعلى والأساسيات الاقتصادية وأساسيات الشركات، وهي عوامل أكثر قرباً إلى الواقع بكثير،

لاتزال تفضل الذين يستثمرون على أساس السيولة.

وكان الطلب على السندات ذات العوائد العالية كبيراً إلى درجة أن رئيس قسم العوائد العالية في أحد المصارف الرئيسية يشعر بالقلق من أن أكبر مشكلة للسنة المقبلة ستكون في العرض، بعد الرقم القياسي لهذا العام الذي بلغ تريليون دولار تقريباً على شكل إصدارات في قروض الرفع المالي والعوائد العالية. وتقريباً كل شركة احتاجت إلى إعادة التمويل وتأجيل دفعات الديون فعلت ذلك من قبل. مع ذلك، في كل يوم يتعين على مديري الصناديق المشتركة الباحثين عن العوائد العالية، العثور على موطن للتدفقات الداخلة المستمرة في التدفق إليها، ما يؤدي إلى تراجع الفروق في الأسعار وتراجع العوائد.

وقال محللو جيه بي مورغان في تقرير في 11 ديسمبر: «مخاطر أسعار الفائدة أكثر أهمية من مخاطر الائتمان، والفروق الواسعة في العوائد نسبة إلى انخفاض مخاطر الإعسار ستفسح المجال مرة أخرى للسندات والقروض ذات العوائد العالية أن تتفوق في أدائها على معظم الدخل الثابت». وتنبأوا بأن الفروق في العوائد العالية لفئات الأصول المذكورة ستتراجع إلى 415 نقطة أساس قياساً إلى سندات الخزانة، وهو تنبؤ تم تجاوزه قبل مرور أقل من أسبوعين على صدوره.

واضطر مستثمرو السندات المتعبون إلى النظر في عدد من القطاعات المعتلة، مثل الفحم، بحثاً عن فرص للاستثمار، على اعتبار أن مالكي جميع الصفقات المعتلة عملياً وذات الرفع المالي المفرط من سنوات الذروة قد أجلوا يوم الحساب في التعاملات.

تكنولوجيا صغيرة

وفي أسواق الأسهم شهدت كثير من الشركات ذات الاكتتاب العام الأولي، خصوصاً بين شركات التكنولوجيا الصغيرة التي يفترض أنها من بين الشركات ذات النمو العالي، أسهمها ترتفع ما بين 60 و70 في المئة عند الافتتاح، وهو أداء يفوق كثيراً أداء الشركات الناضجة التي لديها سجل أمتن كثيراً، مثل أرامارك. ألا يذكركم هذا بشيء من الماضي؟

بطبيعة الحال في مرحلة معينة ستنقلب سياسة الاحتياطي الفدرالي، وسيكون التضخم هو المحرك البديهي، لكن اليوم يبدو أن الانكماش هو خطر أكبر من ارتفاع الأسعار.

وإحدى المشكلات في ذلك هي أن مخاطر سياسة الأموال السهلة من الاحتياطي الفدرالي تعد مخاطر خفية إلى حد كبير. وفي الوقت الحاضر تبدو سياسات البنك على أنها بدون تكاليف -تماماً مثلما فعلت بعد الجولة الأولى من التسهيل الكمي. ولا يكاد أحد يلاحظ أو يعترف بوجود نقص في الرواتب التقاعدية التي تفترض عوائد بنسبة 8 في المئة في عالم من الفائدة الصفرية، لكنها هي الوحيدة التي تم التعامل معها. وملايين الأميركيين الذين يؤجلون برامجهم التقاعدية، لأنهم لا يكسبون بما فيه الكفاية لتمويل هذه البرامج التقاعدية، لا يبدو أنهم احتسبوا حسابات الاحتياطي الفدرالي. والأمر المحزن هو أن مستثمري التجزئة سيكونون آخر من يخرج من الأصول الخطرة التي يُدفعون إليها دفعاً الآن.

لكن الشركات التي من قبيل «أبولو مانجمنت» لا تشعر بنذر الخطر، فهي تعلم أن الأسس التي ستقوم عليها الدورة المعتلة المقبلة توضع الآن، وذلك بفضل سخاء الاحتياطي الفدرالي.

* (فايننشيال تايمز)