يبدو أن أحدث جولة من المفاوضات في جنيف بين إيران ومجموعة الخمس + 1 (الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإضافة إلى ألمانيا) حركت بعض التفاؤل الحذر، فقد أصبحت الفرصة سانحة كما يبدو للتوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني، ورغم أن تفاصيل الاجتماع ليست علنية فإن نجاحه النسبي واضح، حيث من المقرر أن تجتمع الأطراف مرة ثانية في السابع والثامن من نوفمبر.
إن التقارب بين إيران والغرب ـ وفي المقام الأول بين إيران والولايات المتحدة ـ من شأنه أن يخلف عواقب جيوستراتيجية إيجابية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. بطبيعة الحال، لا يزال الطريق طويلاً أمام إيران لإحداث تحسن دائم في علاقاتها مع الغرب؛ ولكن ما يتعين على إيران أن تقوم به ليس العائق الوحيد، فهناك عناصر استراتيجية فاعلة أخرى لابد من وضعها في الحسبان.فمن المؤكد أن إسرائيل ستشكل عقبة رئيسة تحول دون التوصل إلى اتفاق، ففي نفس اللحظة التي شهدت بداية المفاوضات في جنيف، قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) إن احتمال شن هجمة وقائية على المنشآت النووية في إيران لا يمكن استبعاده بعد.ومن الواضح أن نتنياهو جعل من برنامج إيران النووي أولويته القصوى في السياسة الخارجية، فهو متشكك في نوايا إيران ويريد تفكيك محطات الطاقة النووية لديها بالكامل، ومكمن التخوف هنا هو أنه ما دامت إيران تحتفظ بقدرات نووية متبقية ـ ولو حتى للاستخدام المدني ـ فإنها سوف تظل قادرة على إنتاج أسلحة ذرية من شأنها أن تهدد إسرائيل. وكما أوضح نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة في الأول من أكتوبر، فإن المسؤولين في إسرائيل لا يثقون برغبة أو قدرة الحكومة الجديدة في إيران على تغيير المسار.ولكن إسرائيل ليست وحدها في هذا، فالمملكة العربية السعودية التي يحكمها السُنّة، وهي القوة الإقليمية المتنافسة بشكل مباشر مع إيران الشيعية على النفوذ الإقليمي، تستشعر أنها أصبحت مهمَلة بفعل التقارب الوشيك مع الجمهورية الإسلامية، إلى الحد الذي جعلها ترفض مقعداً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للإعراب عن غضب قادتها. وحتى في أيام الشاه، كانت المملكة تخشى أن تتحول إيران القوية إلى قوة إقليمية مهيمنة. الواقع أن إيران، وريثة الإمبراطورية الفارسية التاريخية، هي الدولة صاحبة ثاني أضخم ناتج محلي إجمالي في المنطقة بعد المملكة العربية السعودية، وهي أيضاً ثاني أكبر دولة في المنطقة من حيث عدد السكان بعد مصر، وتخشى المملكة العربية السعودية أن يؤدي الاتفاق المحتمل ـ الذي لا بد أن يسفر عن رفع العقوبات ـ إلى تمكين إيران من تنشيط اقتصادها وبسط نفوذها.بطبيعة الحال، هذه ليست أفضل لحظات التحالف السعودي الأميركي، ويأتي الخلاف بشأن إيران تالياً لرفض أميركا قصف سورية (منافس آخر للسعودية في المنطقة) ومباركتها للإطاحة في عام 2011 بالرئيس المصري الأسبق حسني مبارك (الذي كان حليفاً مهماً للسعودية). وتسعى المملكة العربية السعودية الآن إلى الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، وترى أن اتفاق أميركا مع روسيا على تدمير أسلحة نظام الأسد الكيميائية يعني التخلي عن هدف إسقاط الأسد، ونتيجة لهذا فإن السعودية الآن هي الداعم المالي الأكبر للمتمردين السوريين (وواحدة من المؤيدين الرئيسيين للجيش المصري بعد إزاحته في يوليو لخليفة مبارك المنتخب ديمقراطيا، محمد مرسي).بيد أن الهدف الأكثر إلحاحاً بالنسبة للغرب لابد أن يتلخص في وضع حد للصراع في سورية، فقد قُتِل الكثير من البشر بالفعل في ذلك الصراع الذي تحول إلى الحرب الأسوأ في هذا القرن.إن إيران وروسيا هما الحليفان الرئيسان لنظام الأسد والجهتان الفاعلتان الخارجيتان الوحيدتان القادرتان على تغيير الموقف في دمشق، ومن المقرر مبدئياً أن تبدأ محادثات جنيف الثانية بشأن سورية في الثالث والعشرين من نوفمبر، ولو أن الأخضر الإبراهيمي الممثل الخاص المشترك لمنظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية المعني بسورية أعرب بالفعل عن شكوك بشأن مدى ملاءمة الاجتماع في غياب ممثلين جديرين بالثقة لقوى المعارضة.وتبدي المملكة العربية السعودية عداءً شديداً لمؤتمر جنيف الثاني، لأن المحادثات الدبلوماسية الرسمية مع نظام الأسد تعني ضمناً الاعتراف باحتفاظه بالشرعية بحكم الأمر الواقع. وبالنسبة للسعوديين فإن الحل المقبول الوحيد يبدأ باستقالة الأسد وحكومته، في حين يسعى مؤتمر جنيف الثاني إلى تشكيل حكومة انتقالية تمثل الأطراف كافة.ويواجه صناع السياسات في أميركا صعوبة كبيرة أخرى: الكونغرس الأميركي. فقد أصبح المتطرفون في الحزب الجمهوري في موقف ضعيف بعد اتفاق اللحظة الأخيرة على رفع سقف الديون الأميركية وإعادة تشغيل الحكومة، في حين خرج الرئيس باراك أوباما من هذه الموقعة أكثر قوة. ولكن الأمر برمته يشكل سابقة خطيرة. ذلك أن أي اتفاق يمكن تصوره مع إيران لابد أن يتضمن رفع العقوبات الاقتصادية، وهو ما يتطلب موافقة تشريعية ـ وبالتالي يجعل أي صفقة مقترحة عُرضة لقِصَر النظر وضيق الأفق في الكونغرس.والمشكلة المصاحبة بالنسبة إلى الولايات المتحدة هي أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري جعل السلام بين إسرائيل وفلسطين أولوية قصوى، ويتبقى لنا أن نرى كيف قد يتمكن كيري من موازنة المفاوضات، بحيث لا تتسبب الضغوط الإسرائيلية على الولايات المتحدة بشأن إيران في تخريب الجهود المبذولة لإحلال السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن إذا توصلت إيران والغرب إلى اتفاق، فسوف يكون من الصعب للغاية بالنسبة إلى إسرائيل أن تظل على الهامش.وأوروبا من جانبها لديها فرصة جيدة لتبرئة نفسها من خلال الالتزام بسياسة خارجية موحدة ومتماسكة وفعّالة، والواقع أن الاتحاد الأوروبي، الآن من خلال كاثرين أشتون الممثلة الأعلى لشؤون السياسة الخارجية والأمن، كان دوماً لاعباً رئيساً في المفاوضات بين إيران ومجموعة الخمس + 1. وتتمتع أشتون بثقة جميع الأطراف، ومن الأهمية بمكان الآن أن يتحرك الاتحاد الأوروبي برشاقة وسرعة وأن يحافظ على التنسيق الوثيق مع الولايات المتحدة، وعندما يحين الوقت لرفع العقوبات فيتعين على أوروبا أن تنسق بشكل وثيق مع الولايات المتحدة من أجل ضمان أقصى قدر ممكن من الفعالية لهذه الخطوة.إن التفاوض والدبلوماسية يشكلان السبيل الوحيد المضمون لحل المواجهة مع إيران بشأن برنامجها النووي، والدخول في صراع آخر في الشرق الأوسط هو الخيار الأسوأ على الإطلاق، ولكن اغتنام الفرصة الفريدة اليوم مع إيران يتطلب رؤية بعيدة المدى من جانب جميع الأطراف، ولابد من وضع المصالح الوطنية فوق الاعتبارات الانتخابية. الآن الفرصة للتفاوض سانحة؛ ولكنها لن تظل كذلك إلى الأبد.* خافيير سولانا | Javier Solana ، ممثل الاتحاد الأوروبي الأعلى لشؤون السياسة الخارجية والأمن، والأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي، ووزير خارجية إسبانيا سابقا، وهو حالياً رئيس مركز إيساد (ESADE) للاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية وزميل متميز لدى معهد بروكنجز.«بروجيكت سنديكيت« بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
الطريق الطويل إلى الاتفاق مع إيران
05-11-2013