الجمال وحده يقاوم جاذبية الأرض

نشر في 05-06-2014 | 00:01
آخر تحديث 05-06-2014 | 00:01
No Image Caption
مقطع من ترجمة لرواية «ثلاثة أحصنة» للكاتب الإيطالي أري دي لوقا، تصدر قريباً عن «منشورات الجمل»، بترجمة نزار آغري.
سأخبرك مرة أخرى، أقول له حين نتصافح مودعين بعضنا بعضاً.

وهكذا ها أنا أمضي النهار في بستان. أعتني بالأشجار والزهور، ألوذ بالصمت طوال الوقت وبين الحين والآخر توقظني ذكرى من الماضي أو أغنية أو غيمة عابرة تزيح الشمس من طريقها وتعطي ظهرها للظل. أدور في الحديقة بحثاً عن مكان أغرس فيه شتلة شجيرة تفاح. أجد فسحة فأغرسها هناك. أهيل التراب عليها، أنظر إلى أغصانها الغضة وهي تحاول أن تحتل مكاناً لها.

الأشجار تحتاج إلى شيئين: الغذاء من تحت التراب والجمال من فوقه. إنها مخلوقات صارمة ولكنها طافحة بالبهاء. الأشياء الجميلة بالنسبة إليها هي الهواء والضوء والعصافير والفراشات والنمل والنجوم فتمد أغصانها كي تصل إليها. الجمال هو الذي يدفع النسغ ليصعد في الأشجار إلى الأعلى. لأن الجمال وحده من يقاوم جاذبية الأرض في الطبيعة. لولا الجمال لماتت الرغبة في الأشجار. ولهذا أتوقف أحياناً في البستان وأسأل الشجرة: هل تريدينني أن أغرسك هنا؟ تكفي رجفة في راحة كفي التي تلتف حول جذع الشجرة. مع هذا أريد أن أتكلم مع الشجرة. إنها تجول بنظرها في المحيط من حولها وتحدق في الآفاق لتبحث عن مكان محدد تستقر فيه وتنمو.

الأشجار تصغي إلى الشهب والكواكب وأسراب الطيور وقمم الجبال. هي تحس بالعواصف على الشمس وبدبيب النمل على أغصانها بنفس القدر من الدقة. الأشجار هي الحد الفاصل بين القريب والبعيد. حين تأتي شجرة من مزرعة كي تضع بذورها في أرض مجهولة تبدو مرتبكة مثل عامل ريفي في يومه الأول في المصنع. لهذا أدور بها في البستان قبل أن أهيأ مكان إقامتها.

في البيت أفتح الكتاب أمام الصحن ويقع نظري على قصاصة الورق. هي تدعى ليلى. مع فتحة على الحرف الصوتي الأول. مقطعان صوتيان أشبه بترنيمة.

أترك البطاقة هناك.

أمضغ قطعة من الجبن ثم أقرأ الكتاب. ولكن هذه القصاصة البيضاء تشتت انتباهي. إنها ترقد ساكتة على الحافة الخشبية للطاولة.

أنهض. أخرج إلى الشارع بحثاً عن هاتف. أترك كل شيء على الطاولة بما في ذلك القصاصة. أكتشف ذلك في كشك الهاتف. تسرني هذه الهفوات. طوال اليوم يطيعني الجسد في كل ما أطلبه منه. ولكن فجأة يرسلني لكي أركض وراء الريح وأقبض على الفراغ. وأظن أنه على حق. إنه حمار ممتاز. حين يعود إلى مضجعه يريد أن يستريح.

أقطع الشارع ذهاباً وإياباً. أطلب الرقم.

ليلى؟

 نعم.

أسمع صوتها خفيفاً وناعماً.

ـ بين يدي القصاصة التي أعطيتيني إياها وفيها اسمك ورقم الهاتف.

ـ أريد أن أراك.

ـ أنا في الخمسين من العمر وأعمل بستانياً.

ـ لا بأس. متى؟

ـ أعمل في البستان طوال الأسبوع. وأكملت الخمسين أخيراً.

تتململ. آمل أن تكون قد ابتسمت. تقول لي إنني خفيف الدم وأنها تريد أن تراني ثانية.

يخطر لي أن لا يمكنني أن أمد لها لساني في الهاتف. أقول نعم.

تسألني إن كان لدي هاتف في البيت. أقول لا. وليس لدي سيارة أو مسجلة أو غسالة. لدي براد.

ـ أدعوك إلى العشاء.

ـ لست في عمر يسمح لي أن أرى النادل يحمل الحساب إلى امرأة بدلاً مني.

ـ في بيتي.

أقول نعم.

ـ هل لديك قلم؟

ـ أبداً.

ـ إذن احفظ العنوان.

ثم تعطيني العنوان والتاريخ.

ـ هل تستمرين في إعطائي أرقاماً وأسماءً؟

ـ هل ستتذكر ذلك؟

ـ إذا فشلت سأتصل بك.

ـ اتفقنا إذن.

ـ يبدو يا ليلى أنه لا يهمك أن تعرفي اسمي.

ـ ليس في الحال.

ـ على أي حال أسمي ليس جميلاً كاسمك.

ـ هل يعجبك؟

ـ مثل افتتاحية أغنية تحفظ لحنها أولاً وبعد تلك الكلمات.

 أقفل الخط. في البيت أتناول الطعام ثم أقرأ. ليست ثمة قصاصات ورق أخرى من شأنها أن تبلبل عاداتي المسائية.

كيف تكون ليلى؟ أحاول أن أتخيلها من جديد. امرأة تبحث عن الرجال. جنرال في ساحة التدريب يعرف من يختار من بين آلاف الوجوه التي تقف في الطابور. في الشارع ينظرون إليها غير أنها هي التي تبادر إلى التحديق. أتخيل. ليلى تقيسك بعينيها الحاذقتين وتجدك ناقصاً. هل في شخصيتي ما يستحق النظر إليه؟ أنا رجل أشبه بالكرتون لأنني أعمل في الهواء الطلق. لربما أعجبت بشخص يجلس في المقهى ويتصفح كتاباً بدلاً من أن يجمع فتات الخبز.

هي طويلة القامة. لا تضع شيئاً في أصابعها أو حول رقبتها. صوتها غامض وحنون. يداها قويتان. العظمتان في وجنتيها بارزتان، تصنعان الابتسامة. نعم، تقاطيع وجهها متناسقة. فم مكتنز، أسنان سليمة. منظرها وهي تأكل يبعث على السرور. صدغان ناعمان يزيدهما نعومةً قوس الشعر المضموم. منخران يعبان الهواء عباً. أريد أن أحمل لها باقة من الزهور التي أزرعها في البستان وسأشرح لها من أين تأتي. الحكايات تسر الشباب. بالكاد بلغت ليلى سن الثلاثين. أفكر بالأشياء التي لن أرويها لها. هناك الكثير في الحياة مما ينبغي حذفه. سأخبرها عن زهور جزيرة حيث يرعون الماعز ومن حليبها يصنعون أفضل أنواع الجبن الذي تفوح منه الرائحة العطرة للبحر المتوسط. سأحدثها عن كعكة عيد الميلاد، عن الجدة التي تسهر الليل كله كي تصنع ألف كعكة تقليها وتغمرها بالعسل، عن العمل في المياه المالحة، عن الأعشاب الحمر في الأحواض المغلقة حيث يتحول الملح إلى حبيبات كريستالية تعمي من ينظر إليها. لا يخفض العمال نظرهم قط بل يبقون يحدقون في السماء التي تبقى أقل قسوة من حوض الملح حتى في شمس منتصف النهار. وعند المغيب يطغى اللون الأحمر على كل شيء ويلاحقك أينما ذهبت. حتى الظل يتحول إلى قماش أحمر.

هذا يكفي. لا مزيد من الحكايات.

* * *

أطل الفجر على القطار الذي يأخذني إلى المدينة. تراجع الظلام وبدأ البياض ينتشر. ولكن الضوء لا يكفي للقراءة. عربة القطار قديمة ولهذا فهي تئن وتقرقع. أنظر إلى الأرض، أفكر بالحديقة. غرس الأشجار يمنح السعادة. الشجرة أكثر شبهاً بالشعب من الفرد. تتشبث بالأرض بقوة وتمد جذورها بشكل سري فإذا ما صمدت فإنها تفسح المجال للأجيال الصاعدة من الأغصان والأوراق. حينئذ تلتف التربة حولها وتحتفي بها وتدفعها نحو الأعلى. الأرض تشتاق للأعلى. للسماء. إنها تدفع القارات بعضها إلى بعض كي تنشأ قمماً ومرتفعات. وهي تلتصق بالجذور كي تتسرب إلى النسغ وتصعد معه. وإن كانت في الصحراء فإنها تتحول إلى غبار من أجل أن تصعد إلى الأعلى. الغبار هو شراع يمخر عباب الصحراء برشاقة. تدفعه الريح الجنوبية من إفريقيا فيسرق البهارات من الأسواق ويرشها على المطر. العالم هو رئيس ورشة البنائين.

back to top