الحق في الطعام
لقد اكتسبت أنظمة الغذاء طابعاً عالمياً، فالوجبة المتوسطة في أميركا الشمالية الآن تسافر نحو 2400 كيلومتر من الحقل إلى المائدة، ومع تحول سلسلة الإمداد الغذائية، تزايدت الجهود الرامية إلى ضمان إتاحتها للجميع، وخدم مبدأ "الحق في الغذاء" كمحرك بالغ الأهمية للتغيير من القاعدة إلى القمة.في سبتمبر تبنت الهند قانوناً تاريخياً حول الأمن الغذائي، يضمن خمسة كيلوغرامات من القمح المدعم والأرز وغير ذلك من المواد الغذائية شهرياً لثلثي السكان، ويحسن الدعم المقدم للنساء الحوامل وتلاميذ المدارس وكبار السن، ورغم الثغرات العديدة في هذا النظام فإن التعامل مع القدرة على الحصول على الغذاء باعتبارها حقاً قانونياً يُعَد خطوة بالغة الأهمية في الاتجاه الصحيح.
الواقع أن هذا التقدم، الذي يمتد إلى ما هو أبعد من الهند، يأتي بعد عشر سنوات من النشاط العالمي الذي تحدى منطق الأنظمة الغذائية القائمة كما لم يحدث من قبل قط، فمند اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948، اتسع نطاق المطالبات بالحقوق السياسية مثل حرية التعبير، في حين ظل الحق في الغذاء مهملاً إلى حد كبير.لا شك أن مجموعة كبيرة من الأدوات تم تقديمها منذ التوقيع على الإعلان العالمي في إطار جهود مكافحة الجوع، وقد أصبح كثيرون يعتمدون على المساعدات الغذائية، في حين تعامل البعض مع الأمر انطلاقاً من قناعة أن استئصال الجوع مجرد وسيلة لتعزيز نمو الناتج المحلي الإجمالي، لكن مثل هذه الجهود كانت محدودة النجاح.ومن ناحية أخرى، كانت الأداة المؤسسية الأكثر قوة وتأثيراً تتعرض للإهمال والتجاهل، فعلى عكس الحلول الفنية التي تتعامل مع المشكلة من القمة إلى القاعدة والتي يفضلها صناع السياسات عادة، فإن الحل القائم على اعتبار الغذاء حقاً من الحقوق الأساسية، وليس امتيازاً، لابد أن يتضمن- ويعمل على تمكين- عناصر فاعلة عديدة. ويركز مثل هذا النهج على التمسك بحق كل الناس في إنتاج الغذاء أو اكتساب القدرة على الوصول إليه.وقد وجد هذا النهج بوضوح جمهوراً داعماً في الهند، حيث يعيش الملايين من الناس في الجوع والفقر رغم تحقيق البلاد نمواً في صافي ثرواتها، وعلى مدى العقد الماضي بدأت حركة "الحق في الغذاء" تضرب بجذورها في البلاد، ففرضت الضغوط على صناع السياسات وتعاملت مع المشكلة من الزاويتين القانونية والسياسية.وفي عام 2001 أسفرت الدعوى القضائية التي أقامتها منظمات غير حكومية تهتم بالمصلحة العامة في المحكمة العليا الهندية عن الاعتراف بالحق في الغذاء كجانب من جوانب "الحق في الحياة" المحمي دستورياً، فقد أصدرت المحكمة حكمها بضرورة توسيع سلسلة من البرامج الاجتماعية، من أجل توفير الأرضية الغذائية الأساسية للجميع، وقد أدى هذا إلى تنشيط حلقة حميدة؛ فمن خلال تعزيز قوة الحركات الاجتماعية المحتشدة حول الحق في الغذاء، مكن قرار المحكمة العليا هذه الحركات من تصعيد وتكثيف الضغوط على حكومات الولايات لحملها على بناء جهاز فعّال للأمن الغذائي. ويُعَد القانون الذي صدر أخيراً علامة فارقة في هذه العملية، ولكنه ليس نقطة النهاية بأي حال من الأحوال، ففي بلد يتسم بالتفاوت الهائل في ثروات الأقاليم والفقر العميق الجذور، فإن الطريق إلى استئصال الجوع لابد أن يكون طويلاً ووعراً، ويتلخص الحل الجوهري لضمان التقدم المستمر في تأسيس مبدأ المساءلة. ومن هذا المنطلق فإن عمليات التدقيق الاجتماعية التي تستخدمها حملة "الحق في الغذاء" في الهند للوصول إلى الامتثال الكامل بالسياسات التي أقرتها المحكمة، مثل تقديم الوجبات المدرسية، ستشكل ضرورة أساسية في الأعوام المقبلة.وفي أماكن أخرى من العالم اجتمع بطرق مماثلة الفلاحون والبرلمانيون وجماعات المجتمع المدني والهيئات المؤسسية- بما في ذلك في البرازيل وجنوب إفريقيا والمكسيك- للمطالبة بالحماية القانونية من الجوع، وقد تم تبني الإطار التشريعي للحق في الغذاء في الأرجنتين وغواتيمالا والإكوادور والبرازيل وفنزويلا وكولومبيا ونيكاراغوا وهندوراس، وكثير ما أدى ذلك إلى نهج تشاركي من نوع ما لصناع السياسات يعمل على تمكين الفقراء وإحراز نجاحات دائمة في مواجهة الجوع.ففي البرازيل على سبيل المثال، يشكل ممثلو المجتمع المدني ثلثي المجلس الوطني للأمن الغذائي والتعذية، وبالتالي فإن الفرصة سانحة لهم للتأثير في عملية صنع السياسات على أعلى مستوى. وفي المكسيك- حيث تم الاعتراف بالحق في الغذاء دستورياً في عام 2011- فهناك لجنة وزارية تتألف من تسع عشرة إدارة ومؤسسة حكومية، وليس من قبيل المصادفة أن تتباهى هذه البلدان الآن ببرامج اجتماعية جريئة تعمل على الحد من الجوع بين الفئات الأشد فقراً بنجاح واضح.ومن الواضح أن الحكومات قدمت مساهمة كبيرة في الكفاح ضد الجوع، من خلال إعلاء الحق في الغذاء وتفعيله بشكل كامل، ففي عام 2012، قضت المحكمة العليا في جنوب إفريقيا بمراجعة التشريعات الخاصة بالمصايد لحماية أرزاق صغار الصيادين. وفي نيجيريا والأرجنتين ونيبال، استُشهِد أخيراً بالحق في الغذاء بالنيابة عن المناطق والمجموعات السكانية- بمن في ذلك السكان الأصليون- التي كانت قدرتها على الوصول إلى الغذاء مهددة.الحق أن النجاحات البارزة في مجالات مثل المحاصيل ودعم الأسمدة وحملات المساعدات قد تجتذب عناوين الصحف الرئيسة، ولكن حركة الحق في الغذاء تحمل في طياتها الوعد الأعظم بإنهاء الفقر. والنبأ الطيب هنا هو أن العالم بدأ للتو يدرك القوة الكامنة في هذه الحركة، ومع نشوء حركة عالمية حقيقية للمطالبة بالحق في الغذاء الآن، فإن الأفضل لم يأت بعد.* أوليفيه دو شوتر ، مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالحق في الغذاء.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»