أسرار اعتزال الصدر
فور إعلان مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري (40 مقعداً في البرلمان من أصل 235 وستة وزراء في الحكومة)، انسحابه المفاجئ من العملية السياسية وتخليه عن أي منصب داخل الحكومة وخارجها وفي البرلمان، كما جاء في البيان الذي أصدره مكتبه، توالت الاستقالات الجماعية لأعضائه في البرلمان، وهذا القرار يناقض تماماً ما قرره قبل أيام عدة من إعلانه بأنه سيرشح أحد أنصاره ليخوض الانتخابات التشريعية التي ستجرى في نهاية أبريل المقبل ضد "المالكي" لمنصب رئيس الوزراء، وسيبذل قصارى جهده لإفشال محاولاته لتمديد ولايته الثالثة، وتعهد بذلك.لكن ما الذي جعله يقرر أن يعتزل العمل السياسي فجأة من دون سابق إنذار؟ ولماذا تخلى عن كل هذا وهو في أوج قوته الشعبية والسياسية؟ وكيف لرجل عنيد مثله مالئ الدنيا وشاغل الناس منذ 2003 والعدو العنيد للقوات الأميركية والمعارض الشرس والمنافس القوي في الساحة الشيعية لرئيس الوزراء المالكي، أن يتنازل بسهولة عن دوره كزعيم سياسي بارز ويعمد إلى غلق جميع مكاتبه، فقط من منطلق "الحفاظ على سمعة آل الصدر الكرام"، كما جاء في البيان الذي صدر من مكتبه أو بسبب "غضبه على كتلته"، لأنها تحدت أوامره بتصويتها على المادة 38 من قانون التقاعد العام التي أعطت امتيازات كبيرة لتقاعد النواب والدرجات الخاصة "الوزراء والمستشارون والمديرون العامون"... أو من أجل "إنهاء كل المفاسد التي وقعت أو التي من المحتمل أن تقع تحت عنوانها وعنوان هذه المكاتب داخل العراق وخارجه"، وربما فعل ذلك بهدف "إنهاء معاناة الشعب كافة والخروج من فكاك السياسة والسياسيين".
لا أتصور أن هذه الأسباب تدفع بـ"الصدر" أن يقدم على خطوة خطيرة كهذه دون أن يتعرض لضغط كبير يفوق قدرته على التحمل من قبل قوى إقليمية أو دولية، إيران مثلا، أو ربما من قبل "المحور" الناشط في المنطقة "روسيا وإيران وسورية" لدفعه إلى إخلاء الساحة السياسية "للمالكي" الذي أصبح أحد أهم أعضاء هذا المحور، وإن لم يكن كذلك فلماذا أبدى هذا الموقف المفاجئ في هذا الوقت الدقيق بالذات والانتخابات البرلمانية العراقية على الأبواب؟ أليس من أجل أن يعطي فرصة للمالكي ليمدد ولايته الثالثة؟ قلت قبل أكثر من سنة ونصف، عندما اجتمع القادة المعارضون لحكم المالكي (إياد علاوي زعيم القائمة العراقية، ورئيس البرلمان أسامة النجيفي، ومقتدى الصدر، ومسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان) في أربيل عاصمة إقليم كردستان عام 2012 لسحب الثقة من "المالكي" لعدم التزامه ببنود اتفاقية "أربيل" التي عقدوها عام 2010، التي أصبح "المالكي" بموجبها رئيساً للوزراء لولاية ثانية، واحتكر السلطة لنفسه وأقصى الآخرين، قرر القادة انتزاع السلطة منه، وفعلا تحركوا في هذا المسار وكادوا يصلون إلى نتيجة تذكر، لكن فجأة تراجع "مقتدى الصدر" عن قرار سحب الثقة من المالكي وترك القادة في حيرة من أمرهم. قلت حينئذ إن "المالكي والصدر" وجهان لعملة واحدة، صحيح أنهما مختلفان في الأسلوب ولكنهما يعملان لهدف واحد وضمن أجندة واحدة، ولكن بدورين مختلفين، وهي "تكريس المذهب الجعفري في العراق والمنطقة".وكما فشلت خطة سحب الثقة من المالكي عام 2012 بسبب انسحاب "الصدر" في آخر لحظة، وخرج الكل خاسراً إلا المالكي، فإن قراره باعتزال السياسة أيضاً جاء في آخر لحظة ولمصلحة المالكي أيضاً، وسيجني من ورائه مكاسب سياسية كثيرة.والعجيب أنه بعد أن أسدى إلى المالكي خدمة عمره، وأخلى له الساحة السياسية، راح يشن عليه هجوماً عنيفاً ويصفه بـ"الدكتاتور" ويحمِّله تردي الأوضاع في العراق، ليوهم الناس بأنه ضده، وأنه لم يقم بما قام به إلا "درءاً للمفاسد"، وخدمة للشعب العراقي المظلوم وليس لشيء آخر. وهذا ليس بصحيح، فالرجل أراد أن يضرب عصفورين بحجر واحد؛ أولاً أن يظهر نفسه للعالم بأنه رجل دين، زاهد في السياسة والمناصب الدنيوية، ليزيد من شعبيته ويكسب تعاطف الطبقات الفقيرة نحوه، وأيضا ليمنع تشتيت أصوات الشيعة ويجمعهم على رجل واحد وهو "المالكي" قبل الانتخابات المقبلة، ضمن خطة سياسية مدبرة ومتفق عليها مسبقاً.كل الاحتمالات واردة في الحالة العراقية.* كاتب عراقي