قبل أكثر من ثمانية وعشرين عاما، وبالتحديد في الثامن والعشرين من يناير 1986، انفجر مكوك وكالة الفضاء الأميركية ناسا المسمى "تشالنجر" في كبد سماء فلوريدا الوسطى بعد أقل من دقيقة ونصف من إقلاعه، ليودي بحياة جميع أفراد طاقمه السبعة، بمن فيهم كريستا ماكوليف معلمة التاريخ في المدرسة الثانوية، والتي التحقت بالمهمة من بعد اختيارها من بين أكثر من 11 ألف شخص تطوعوا للمشاركة!

Ad

هزت الفاجعة كل العالم، وأثارت اضطراباً عنيفاً في الداخل الأميركي، حيث يقال إن عشرين في المئة من الشعب الأميركي كانوا يتابعون لحظات انطلاق المكوك ومن ثم انفجاره على شبكات التلفزة على الهواء مباشرة. فقام الرئيس الأميركي آنذاك، رونالد ريغان، بإطلاق لجنة تحقيق، عرفت بلجنة روجرز نسبة إلى رئيسها ويليام روجرز ضمت في عضويتها نيل آرمسترونغ أول رجل مشى على سطح القمر نائبا للرئيس، وذلك لتقصي الحقائق والبحث عن أسباب الفاجعة.

انتهت اللجنة بعد ستة أشهر من عملها في تقرير قدمته إلى البيت الأبيض إلى أن السبب التقني للحادث يعود إلى تفكك وفشل حلقة رابطة في صاروخ الدفع الأيمن بفعل البرودة الشديدة مما أدى إلى تسرب الغازات المضغوطة، ومن ثم اشتعالها، وأشارت اللجنة إلى أن هذا الخلل في هذه الحلقة الرابطة كان معروفا لدى مهندسي وإدارة ناسا، ولكن تم تجاهله مرارا في رحلات تشالنجر السابقة، ولم يؤخذ على محمل الجدية البالغة، بعدما مرت جميع الرحلات التسع السابقة بسلام!

فكرة السطور الأخيرة من الفقرة السابقة هي ما أريد الوصول إليه من سردي لهذه القصة المشوقة والتي يمكن الوصول إلى بقية تفاصيلها من خلال الشبكة العنكبوتية. تجاهل الخلل وعدم أخذه على محمل الجد لمجرد أنه مر بسلام، يسمى في علم الأمن والسلامة، (التطبيع مع الخلل) أو كما يقال بالإنكليزية (Normalization Of Deviance)، والمقصود به كما اتضح مما سردت في حكاية تشالنجر هو تجاهل الخلل المتكرر واعتباره أمرا طبيعيا لمجرد أن الكارثة المحتملة لم تحصل طوال الفترات السابقة.

أغلب البشر يمارسون في حياتهم اليومية، وبلا انتباه، "فاجعة" التطبيع مع الخلل على مستويات مختلفة، وسأضرب لذلك أمثلة منوعة.

كثير من الناس لا يربطون حزام الأمان لمجرد أنهم يقودون سياراتهم منذ سنوات ولم يحصل لهم شيء، وكثير من الناس يسمحون لأبنائهم بقيادة السيارات من غير رخصة لأن الجميع يفعل ذلك ولا يوجد ما يسوء، وكثير من الناس يستمرون في التدخين لمجرد أنهم يدخنون منذ سنوات ولم يعانوا يوما من أي مشاكل، أو لأنهم يعرفون آخرين كانوا يدخنون طوال حياتهم ولم يحصل لهم شيء، وكثير من الناس لا يكترثون بكمية الدهون في أغذيتهم وارتفاع الكولسترول والدهون الثلاثية في دمهم، لأنهم هكذا منذ الأزل ولم تحصل لهم أي مشكلة صحية، وغير ذلك من الأمثلة كثير على كل مستوى.

والسؤال هنا لكل واحد منا، ولنجب أنفسنا بأنفسنا بصراحة، كم من الاختلالات التي قمنا بالتطبيع معها في حياتنا؟ وهل نحن متهيئون نفسيا للفواجع إن هي حصلت من جراء ذلك لا قدر الله؟! وهل نحن متهيئون للإصابات الخطيرة من جراء الحوادث المرورية؟ وهل نحن متهيئون لفقد أبنائنا في حوادث السيارات؟ وهل نحن متهيئون لاستقبال أمراض القلب أو السرطان بسبب التدخين؟ وهل نحن متهيئون لأمراض الشرايين والدروة الدموية والجلطات الدموية بسبب الدهنيات؟ وهل نحن؟ وهل نحن؟ وهل نحن؟ وهل نحن مستعدون لدفع ضريبة "تطبيعنا مع الاختلالات" في حياتنا؟!