عاشت الطوائف الدينية التاريخية المختلفة من المسيحيين (الكلدانيين، الآشوريين، السريانيين) والصابئة واليزيديين واليهود، على امتداد التاريخ الإسلامي في عهد المسلمين وذمتهم، آمنين على أنفسهم وأولادهم وأموالهم وكنائسهم، يمارسون شعائرهم الدينية ويتمتعون بحقوقهم المدنية في التجارة والملكية والتنقل والعدالة أمام القضاء الإسلامي، وكان لأبناء هذه الطوائف دور بنّاء في ازدهار الحضارة الإسلامية، فهم الذين نقلوا تراث اليونان والفرس والهند والرومان إلى العربية: آداباً وفلسفات وعلوماً، وتقلد العديد من أبنائها مناصب مهمة في جهاز الخلافة.
عاشت هذه الطوائف في "تعايش" صحي ومثمر، وكان المسلمون في ذلك يترجمون تعاليم دينهم الذي أمرهم بإحسان التعامل مع غير المسلمين وفق قاعدتي "البر" و"القسط" كما في الآية الكريمة "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ"، ويقتدون بسنّة نبيهم عليه الصلاة والسلام الذي وادع يهود المدينة في أول دستور إسلامي، تضمن الحقوق والواجبات بين المسلمين واليهود على أساس حسن الجوار والتعاون ضد العدوان واحترام المعتقد "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم". ولا ينسى المسلمون كرم معاملة "النجاشي" ملك الحبشة "المسيحي" للمسلمين الأوائل المهاجرين من بطش قومهم، كما لا ينسون علاقات المودة التي ربطت نبيهم والنجاشي، كما ترسخ هذا الأمر في عهود ومواثيق قادة المسلمين مع هذه الطوائف في البلاد المفتوحة، وتضمنت الحرية الدينية لها في ممارسة شعائرها والحفاظ على كنائسها والالتزام بحمايتها. وإذا جئنا إلى العصر الحديث فإن النابهين من أبناء هذه الطوائف وبخاصة المسيحيين، كانوا هم رواد التحرر الفكري ومنظّري الدعوة القومية الأوائل وحاملي لواء النهضة العربية الحديثة، بل كما يقول أميل أمين "الآباء الدومينيكان في الموصل هم الذين أدخلوا إلى العالم العربي أول مطبعة باللغة العربية"، من يستطيع تجاهل مفكرين بارزين حملوا شعلة التنوير من أمثال قسطنطين زريق، وإدوارد سعيد، ونقولا زيادة، وجرجي زيدان وغيرهم؟!ونحن لا ننكر أنه في مراحل تاريخية معينة في ظل دولة الخلافة، ووجود مناخات اجتماعية متعصبة، كانت هناك إجراءات تمييزية ضد هذه الطوائف، ساندتها– مع الأسف– آراء فقهية متشددة، تمثلت بالتعسف في جباية الخراج والجزية وإلزام غير المسلمين بزي معين، نحن لا ننكر ذلك، لكننا نستنكرها ونعدها لا تتفق ومنهج الإسلام وتعاليمه التي تقول: من آذى ذمياً فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه سيكون خصيمه يوم القيامة، مع أن مراعاة هذه المظالم لم تقتصر على غير المسلمين بل شملت فئات عديدة من المسلمين: الرقيق، والمرأة، والمسلم العادي الذي كان مهمشاً ومحروماً من كثير من حقوقه في ظل دولة الخلافة التي أشاعت الخرافات والجهل والتعصب والتناحر. ولكن كل هذه الإساءات التي تعرضت لها الطوائف الدينية في الماضي، لا تقارن بما هو ممارس اليوم ضدها من صنوف الأذى وألوان الاضطهاد التي تواجهها من الجماعات المتشددة في بعض المجتمعات العربية، كانت مشكلة الطوائف الدينية في الماضي، مشكلة حدود حريات وحقوق، أما اليوم فقد أصبحت مشكلة "وجود" لهذه الطوائف التي تقتلع من أوطانها وتهجر من مدنها بقوة السيف. دولة "داعش" أفرغت الموصل من المسيحيين، لتصبح هذه المدينة ولأول مرة في تاريخها خالية من سكانها المسيحيين الذين استوطنوها 1500 سنة، وطالبتهم "داعش" تحت تهديد السلاح إما بالإسلام أو الجزية أو القتل أو الرحيل خلال 24 ساعة! وجردتهم من كل شيء، سلبت جميع مقتنياتهم من أموال وذهب وملابس وأجهزة هاتف حتى وثائقهم الرسمية، تعمدت إذلالهم وتحقيرهم وإهانتهم– كما لم يحصل في تاريخهم كله– ودفعتهم بغير رحمة للمغادرة سيراً على الأقدام مئات الكيلومترات، وفيهم العجزة والشيوخ والأطفال، وصلوا بعد يوم كامل وفي حالة من التعب الشديد والجوع والعطش إلى أربيل وداهوك في إقليم كردستان. واستولى "داعش" على منازلهم وممتلكاتهم وكنائسهم (30) كنسية، هكذا فعل "داعش" مع من قال الله تعالى فيهم "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ" وما حصل للمسيحيين في الموصل حصل لأتباع الديانات الأخرى في مناطق عربية مختلفة، بل إن الكنائس في العراق ومنذ 2003 تتعرض لهجمات متكررة من الغلاة، أخطرها أدى إلى مقتل 44 مصلياً في كنيسة للسريان الكاثوليك في بغداد 2010. هذا المد الإرهابي العنيف الذي يستهدف الطوائف الدينية أدى إلى هجرة عدد كبير من المسيحيين العراقيين، وبحسب التقارير الدولية فإن عدد المسيحيين انخفض من 1.4 مليون عام 2003 إلى 500 ألف عام 2013، وفي اليمن تقلص الوجود اليهودي الممتد إلى ألفي سنة إلى 300 شخص فقط، وبحسب تقرير أميركي عن الحريات الدينية فإن النزاعات الدينية وأعمال القمع ذات الطابع الديني أدت إلى أكبر حركات النزوح السكاني في تاريخ العالم الحديث، حيث إن الملايين هربوا من منازلهم وأفرغت أحياء كاملة من سكانها!دعونا نتساءل: ما الذي قلب حياة هذه الطوائف التاريخية واضطرها لترك أوطانها ومنازلها؟! إنها "ثقافة الكراهية" التي ترسخت في الأرض العربية، بفعل طروحات أيديولوجية لتيارات سياسية أيديولوجية، هيمنت على الساحة وصاغت المناهج الدراسية والخطاب الديني السائد عبر نصف قرن، لتنتج في النهاية هذا "المد المتطرف" الذي أصبح اليوم "وحشاً ضارياً" يفتك بالبلاد ويزهق أرواح العباد. ويضاف إلى ذلك عاملان مساعدان: 1- إخفاق "الدولة الوطنية" في تفعيل مفهوم "المواطنة" بين أبناء المجتمع الواحد بطوائفه المختلفة. 2- ضعف عوامل "التحصين المجتمعي" في مواجهة أمراض العنف والتطرف.ختاماً: سيستمر نزيف الهجرة والنزوح، ما لم تتم عملية مراجعة نقدية شاملة لكل عوامل التحصين المجتمعي، وكما يقول النائب الكويتي نبيل الفضل: إن لم تنسف المناهج الدراسية ويتغير الخطاب الديني، فستعلن أكثر من "داعش" دويلتها قريباً!* كاتب قطري
مقالات
لكي لا تختفي الطوائف الدينية من مجتمعاتنا
04-08-2014