مديحة يسري... سمراء النيل: لقاء في {غروبي} يفتح طريق السينما (2)

نشر في 30-06-2014 | 00:02
آخر تحديث 30-06-2014 | 00:02
جلستُ أتأمَّل {سمراء النيل}، وهي تحكي عن تلك الصور واللوحات الكثيرة، التي تزيِّن جدران بيتها الواسع المريح، التحف كثيرة ومُتناثرة برهافة في كل الأركان، كأنها تصنع حالة روحية تفوح من كل شبر في هذا البيت، الذي عاشت جدرانه صخبَ السنوات السابقة، وزاره كثير من المشاهير، الذين تركوا، على ما يبدو ، نظراتهم عالقةً على الجدران.
تواصل الفنانة القديرة مديحة يسري، حديثها عن العائلة والبيت والصاحبات، الأول، في {مدرسة التطريز}، تتحدث عن أول دقة قلب، عن العينين السوداوين، اللتين أهدتا إليها حياة أخرى، لم تُخطط لها يوماً.
لم تتحدث مديحة يسري كثيرا عن العائلة، إلا أن ما كشفته من تفاصيل كان كافياً لرسم صورة لهذه العلاقة، شديدة الخصوصية والتميز في حياتها، خصوصاً علاقتها بفكرة {الأم}، فرغم مرور عشرات السنوات على رحيلها، فإنها لا تزال تتحدث عنها بكل حب، مشيرةً إلى أن علاقتها مع والدتها يغلفها دوماً الدفء والصراحة، فكانت تروي تفاصيل حياتها كافة، حتى إنها أخبرتها بعملها في التمثيل قبل والدها.

تقول مديحة يسري: {تعلمتُ الاستيقاظ والنوم مبكراً من أمي، التي أدت دوراً كبيراً في حياتي بالتربية السليمة التي منحتني الثقة في النفس، لذا عندما فقدتها شعرت أنني خسرت نصف الدنيا}، تقول الفنانة القديرة ذلك، وهي تتنفس بصعوبة، والصفات الحميدة، مثل النوم والاستيقاظ مبكراً، التي ورثتنها عن أمها، ظلت لصيقة بشخصيتها، طوال العقود السابقة، ما يُفسر احتفاظها بنضارة وجهها، رغم الأزمات المرضية التي مرَّت بها.

تقول مديحة: {الود والأصول والحفاظ على صلات الرحم، كلها سلوكيات وصفات يعرفها الجميع عني. أنا دوماً حريصة على مد حبل الوصال مع الجميع، ومنذ الطفولة. عرفت أن الابتسامة الصافية هي جواز المرور، لدرجة أن أحد أقاربنا، كان يستثمر أمواله في البورصة، كان يتوجه يومياً إلى منزلنا تفاؤلاً بي، وفعلاً كان في كل مرة ترتفع أسهمه، مما رسخ في داخله يقيناً أنني {وش السعد}.

الغريب أن الفنانة القديرة، كانت من ذلك النوع الذي يرى أحلامه تتحقق، على أرض الواقع، ما رسَّخ لدى أهلها وأقاربها هذا الاعتقاد بأنها فعلا فيها {شيء لله}. مثلاً، حلمت مرة وكانت في الرابعة عشرة من عمرها، بشقيقتها الكبرى منيرة، قد ماتت، وحينما استيقظت حكت الحلم لأمها التي انزعجت وحرصت على الاتصال بابنتها للاطمئنان عليها. كذلك طلبت من مديحة أن تنسى الحلم تماماً مؤكدة لها أنه كابوس، كما لم تنس أن تنبهها بألا تثقل في الطعام قبل النوم. إلا أنها فوجئت بعد بضعة أيام بخبر موت شقيقتها، فانهارت الأم ودخلت الأسرة في حالة حداد على رحيل الابنة الشابة.

تتذكر مديحة هذه الواقعه قائلة: {كان عمري آنذاك 14 عاماً تقريباً، وكنا في المنزل، وعندما رويت لأمي تفاصيل العزاء، وأموراً أخرى شاهدتها في الحلم، أكدت لي أنها شاهدت ما حكيته يتحقق فعلاً على أرض الواقع، وكأني كنت أرى ما سيحدث، وهو ما تكرر معي في حوادث وحكايات أخرى}.

أول حب

كان والدها يشعر بالغيرة عليها دوماً، فابنته كان جمالها لافتاً، «خرطها خراط البنات» كما يقول المثل الشعبي. كانت تبدو دوماً أكبر من سنها، ربما بسبب طولها الذي كان يميزها عن بقية زميلاتها، وأنوثتها التي لا تخطئها العين... بشرتها السمراء كانت أيضاً سبباً في شعور الأب بالخوف على ابنته، خصوصاً بعدما بدأت التحرشات الكلامية تحاصرها من تلامذة المدرسة الثانوية التي كانت على بعد خطوات من المنزل، وكان عليها المرور من جانبهم في ذهابها أو عودتها من المدرسة التظريز، لذا قرر والدها أن يشترك لها في «التروماي» (أحد أبرز وسائل النقل العامة  في هذا العصر) كي تستقله  رغم أن المسافة بين بيتها والمدرسة كانت بضع خطوات ولا تحتاج إلى مواصلات.

كانت مديحة تستقل «التروماي» مع زميلاتها وتحرص دوما على الوقوف خلف السائق لتشاهد شوارع القاهرة الجميلة خلال اختراق التروماي لها، وكانت تنتظر يوم الخميس على أحر من الجمر لتتوجه برفقة صديقاتها إلى وسط البلد ليستقلوا التروماوي رقم 25 القادم من منطقة «المبيضة» متجهاً إلى ميدان العتبة لأجل الوصول إلى شارع 26 يوليو ليجلسن في حديقة «غروبي» الشهيرة» لتناول الشاي والمثلجات.

وفي أحيان أخرى، كانت مديحة وصديقاتها ينزلن في محطة الفلكي في ميدان باب اللوق، ويسرن في الشوارع لمشاهدة محلات الملابس، يتابعن أحدث خطوط الموضة التي تعرضها محلات الملابس، خصوصاً أن دراستها التطريز في المدرسة لم تفدها في حياتها ومسيرتها الفنية بشكل خاص، سوى أنها أثرت على شخصيتها الفنية، ما جعلها تنتقي ملابسها بعناية فائقة بأبسط الإمكانات، وأن ترتدي ملابس تجعلها تبدو أكثر شياكة من غيرها، كذلك كانت تنصح صديقاتها كيف ينتقين ما يناسبهن، وهو ما أفادها كثيراً .

رغم اهتمامات مديحة بالقراءة والفنون وتميزها عن بنات جيلها، فإنها وفي ما يتعلق بالحب والزواج لم تشذ عن بنات جيلها، خصوصاً مع كل واحدة من صديقتها تدخل القفص الذهبي، حينها كانت تتأجج مشاعرها وتتحرك وتأمل مثل كل البنات أن تجد من يخطف قلبها. كانت تمد خط الأمنيات والأحلام  وتبدأ في رسم ملامح لفتى الأحلام، الفارس الذي سيخطفها على حصانه الأبيض. حتى جاء اليوم الذي تقدم فيه ابن الجيران لخطبتها، الشاب الجامعي الوسيم الذي جاء مع عائلته لخطبتها قبل أن ينهي دراسته الجامعية، وهي درجة علمية لم يكن أي شخص يصل إليها في تلك الفترة.

كان العريس الشاب أبدى إعجابه بمديحة الفتاة السمراء الجميلة ممشوقة القوام التي يراها صباحاً خلال ذهابها إلى مدرسة التطريز مع شقيقته، لذا ألح على عائلته حتى وافقوا على التقدم لخطبتها على مضض، رغم أنهم تأكدوا من حسن أخلاقها ولكن لرغبتهم في أن ينهي نجلهم دراسته الجامعية ويبدأ حياته العملية أولاً من دون أن يرتبط بفتاة تُعرقل مستقبله.

إلا أن رغبة الشاب في الارتباط بمديحة كانت تتزايد يوماً بعد الآخر كلما شاهدها بصحبة شقيقته، يضاف إلى ذلك طريقة حديثها وثقافتها الواسعة. ذلك كله زاد من رغبته في التمسك بها.

وفي اليوم الموعود، توجهت أسرة العريس والتقت والدها وطلبت يد السمراء الفاتنة لنجلها، واتفق الطرفان على أن يحتفلا بالخطوبة في غضون أسابيع، على أن يكون الزفاف بعد تخرج العريس في الجامعة. فعلاً، وافقت عائلة مديحة على العريس الشاب الذي وجدت فيه رجلاً يمكنه أن يسعد ابنتهم في المستقبل، فحالته المالية ميسورة وتنتظره وظيفة حكومية بمرتب مجز يمكنه أن يكفل ابنتهم بشكل محترم.

وتوطدت علاقة مديحة بخطيبها. كان يلتقيها في زيارات عائلية في منزلها، إذ لم يكن يسمح لهما بالخروج بمفردهما أو الالتقاء خارج المنزل، وفي الوقت نفسه أحبت مديحة الشاب وأخذها من كل ما حولها، الرسم والتمثيل وحتى صديقاتها ونزهة الخميس معهن، فتعليمه ووسامته وأخلاقه كانت من أكثر الأمور التي رفعت من درجة مشاعرها، وباتت تتخيل ملامح مستقبلها معه. لكن الخطيب الشاب قرر في إحدي الزيارات أن يبلغها بقراره إنهاء الخطوبة، وقد كانا جالسين في غرفة الصالون.

العريس: يا هنومة... أنا خلاص مسافر الصعيد.

مديحة: إيه إزاي وليه؟

العريس: جالي شغل هناك ولازم أسافر علشان استلم الوظيفة الميري، هي في قنا صحيح بس كويسه.

مديحة: طيب وخطوبتنا.

العريس: بصراحة يا هنومة أنا بقيت مقتنع برأي أهلي إن الخطوبة والزواج لازم يتأجلوا شوية، لأن وظيفتي في مكان بعيد وصعب اتجوز دلوقتي، علشان كده أنا جاي أودعك النهارده.

مديحة: انت عارف معني اللي بتقوله ده؟

العريس: عارف يا هنومة، بس أنا مضطر، ومعنديش حل تاني، مع السلامة.

قام العريس من مقعده وغادر المنزل. في هذه اللحظة تتذكر الفنانة القديرة مديحة يسري، دور أمها، حينما دخلت عليها الغرفة ووجدتها منهارة من البكاء، بسبب سفر العريس وفشل مشروع الخطبة، تتذكر أن أمها قالت لها: «ولا يهمك فيه مليون عريس يتمناكي يا بنتي انت زي القمر».

لم تستطع مديحة الرد على والدتها من الدموع التي انهمرت من عينيها السمراوين واسرعت بالدخول الي غرفتها، ونامت تبكي حزناً على حبها لشخص لم يقدر عواطفها مفضلاً الانسياق وراء حديث أهله.

أصيبت مديحة بصدمة نفسية حادة، نتيجة لما فعله خطيبها، وموقفه منها وسلبيته في مواجهة عائلته، إلا أنها وبعد فترة قررت أن تودع أحزانها وتستعيد عافيتها، مستعينة بخبرات كل ما قرأته في الكتب وعبر روايات الحب التي ألهمتها الثبات وساعدتها على تجاوز هذه الفترة العصيبة من حياتها.

الطريق إلى غروبي

خرجت مديحة من تلك الصدمة أقوى من السابق، ومثلما رفضت الاستسلام لأحزانها، رفضت انتظار عريس آخر يطرق بابها، وقررت أن ترسم ملامح مستقبلها «منفردة» ومن دون آخر تبني عليه خططها المستقبلية.

رغم تحضرها وإصرارها على تعليم ابنتها في ذلك الزمن المبكر، والسماح لها بالخروج مع صديقاتها، فإن عائلة مديحة كانت أسرة محافظة لا تسمح لابنتها إلا بالخروج مرة أسبوعياً والعودة مبكراً كي لا تتعرض للمضايقات. وكانت والدتها على معرفة بصديقاتها وعائلتهن، وبعدما فسخت خطوبتها سمحت لها بممارسة حياتها بشكل طبيعي، فعادت للخروج مع صديقاتها والذهاب إلى غروبي في منطقة وسط البلد حيث اعتدن على الجلوس هناك كل خميس، لتتناول قطعة الحلوى مع الكاكاو الساخن الذي كان طلبها المفضل، تتناقش مع صديقاتها حول ما حدث في المدرسة وأهم خطوط الموضة وغيرها من أمور البنات.

كانت مديحة تذهب أحياناً مع صديقاتها إلى سينما «دوللي» في حي شبرا، سواء يوم الخميس بدل الجلوس في غروبي أو في الحفلة الصباحية يوم الجمعة، وفي كل مرة كانت تشاهد فيها فيلماً جديداً كانت تتخيل نفسها بطلته الفيلم على غرار الممثلة الأميركية الشهيرة آنذاك غريتا غاربو.

أحلام مديحة بالاتجاه إلى التمثيل لم تكن بسبب رغبتها في الشهرة فحسب أو لمشاهدة نفسها على شاشة السينما، ولكن لإعجابها بحياة النجوم وحب الجماهير لهم. صحيح أن جزءاً كبيراً من أحلامها تحقق لاحقاً، لكنها لم تدرك يوماً أن حديقة غروبي ستمنحها الفرصة لتحقيق أحلامها ولتصبح إحدى أهم نجمات السينما.

الحلقة الثالثة غداً

فرصة سينمائية

في أحد الأيام، جلست مديحة بصحبة صديقاتها في حديقة غروبي يتحدثن بصوت مرتفع نسبياً لفت انتباه الحاضرين، إذ كانت صديقتهم جمالات تطلق النكتات فتضحك البنات بصوت مرتفع، وعلى إحدى المناضد القريبة كان هناك رجل يتابع {جلسة البنات} ويتأملهن بدقة، ما لفت نظر الفتيات لهذا {الغامض بسلامته} الذي يطيل النظر في وجوههن ويتابع جلستهن، خصوصاً أن وجهه كان مألوفاً لديهن وإن لم يتمكنّ من معرفته أو تحديد هويته.

عرفت مديحة وصديقاتها لاحقاً أن هذا الغامض الذي أطال النظر إليهن، ثم تجرأ واقترب منهن للتعرف إليهن أحد أهم رواد السينما المصرية المخرج محمد كريم الذي كان أول مصري يدرس السينما والإخراج السينمائي في أوروبا، وأول مخرج يؤسس علاقة بين الأدب والسينما من خلال أول أفلامه الذي أخذه عن رواية أدبية شهيرة هي رواية {زينب}، وهو أيضاً المخرج الذي أنطق السينما المصرية بعدما كانت صامتة حينما قدم فيلم {أولاد الذوات} عام 1932 وكان أول فيلم مصري ناطق، وهو أول مخرج يقدم فيلم {سكوب ألوان} في السينما المصرية وكان ذلك في منتصف الخمسينيات، وأول مخرج يعود إليه الفضل في تأسيس السينما الغنائية والدفع بهذا اللون في السينما، خصوصاً بعدما ارتبط اسمه بالموسيقار محمد عبد الوهاب الذي أخرج له سبعة أفلام أدى بطولتها عبد الوهاب، وهو أيضاً أول من ساهم في تأسيس المعهد العالي للسينما في مصر نهاية الخمسينيات وكان أول عميد له.

كان كريم يقترب من {البنات} فيما تتصاعد دقات قلوبهن جميعاً، وما هي إلا لحظات حتى عرفهن بنفسه، قائلاً:

مساء الخير يا بنات، أنا محمد كريم مخرج السينما.

ردت إحدي الفتيات في جرأة حُسدت عليها: أهلاً يا أستاذ، فقال: أنا بعمل فيلم جديد اسمه {ممنوع الحب}، بطولة الأستاذ محمد عبد الوهاب، وكنت بادور على بنت جديدة تبقي معايا في الفيلم.

دار حديث هامس بين الفتيات رشحن على أثره زميلتهن جملات لجرأتها، لكن كريم فاجأ مديحة وتقدم نحوها وأخبرها بأنها هي من وقع عليها الاختيار. لثوان دارت الدنيا بمديحة، وتذكرت فجأة الأفلام التي شاهدتها في السينما ونالت إعجابها، تخيَّلت صورتها على الملصق الدعائي وزميلاتها يشيرن إليها بعدما أصبحت بطلة سينمائية، والجماهير تلوح لها و... انتبهت مديحة على صوت كريم وهو يسألها مجدداً عن رأيها وهل توافق على العمل في السينما.

كريم: تحبي تمثلي معايا في الفيلم يا حلوة؟

مديحة: أنا يا أستاذ؟

كريم: أيوة انتِ... وشك هيبقي حلو قدام الكاميرا.

مديحة: يعني حضرتك اخترتني علشان أنا أحلى واحدة فيهم يعني؟

فابتسم قائلا: أكيد أنت حلوة لكن مش أجمل واحدة بس أنت وشك مناسب للكاميرا جداً، وفيك المواصفات اللي أنا عاوزها للبنت الجديدة في الفيلم، عيونك السودا أكثر حاجة شدتني، لأن الدور صغير والبنت هتظهر ثواني بس وهتكون الكاميرا علي عينها، فأنت أحسن واحدة تعمل الدور ده.

مديحة: موافقة يا أستاذ.

كريم: وانت اسمك إيه حلوة.

مديحة: اسمي غنيمة بس كل الناس بتقولي يا هنومة.

كريم: طيب عموماً لما تيجي المكتب هنبقي نشوفلك اسم ينفع في السينما كده، علشان تبقي فنانة مشهورة.

مديحة: ماشي يا أستاذ اللي تشوفه، أنا نفسي أكون ممثلة، وكل أسبوع بعد السينما بروح أقلد المشاهد اللي فاكراها قدام المريا.

ابتسم كريم لها وأخبرها بأنه سينتظرها مساء يوم الاثنين لتكون برفقة والدها أو والدتها لأجل توقيع عقد الفيلم. هنا بدأت ملامحها تتغير ويتسرب لها القلق وهو ما تلمسه كريم فسألها عن السبب...

back to top