العراق إلى أين؟!
أعداد القتلى في العراق خلال عام 2013 تجاوزت السبعة آلاف، هذا غير الجرحى والمفقودين وغير الدمار والخراب والخسائر الاقتصادية الهائلة، مما يعني أن هذا البلد يخوض حرباً، لا ضد الخارج بل ضد نفسه، وأنه، وهذا هو الأخطر، لم يعد وطناً موحداً بل محميات طائفية، وللأسف، تتناحر وتتقاتل بدوافع مذهبية حقيقتها الصحيحة الاصطفاف وفقاً لأجندات سياسية خارجية يعرفها العراقيون أكثر من غيرهم.إن هناك الآن مناطق، حتى في بغداد العاصمة، لا يستطيع العرب السُّنة دخولها، وبالطبع ولا الإقامة فيها، وبالمقابل فإن هناك مناطق وأحياء لا يستطيع العرب الشيعة أيضاً دخولها ولا الإقامة ولا التجول فيها، وكل هذا، والمعروف، قبل هذه الفتنة، التي تعود جذورها إلى سنوات سابقة والتي تعاظمت بعد عام 2003، أن العراق، الذي كان ولايزال عبارة عن لوحة فسيفسائية مذهبية وطائفية ودينية وعرقية، كان مثالاً يحتذى في التآخي والتسامح وفي التداخل الديموغرافي وفي الوطنية الصادقة والانتماء القومي العروبي الصحيح.
في عام 2003 عندما احتل الأميركيون العراق وأسقطوا نظام صدام حسين، غير المأسوف عليه، ساد اعتقاد بأن هذا البلد سيودع الاقتتال الداخلي وأنه لَنْ يعرف وجبات الإعدام أبداً وأنه في انتظار تجربة تسامحية وديمقراطية فريدة، وأيضاً في انتظار تعددية سياسية تستوعب كل التعارضات المذهبية والطائفية والعرقية... لكن هذا لم يحصل للأسف، فالجيوش الأميركية كانت جيوشاً محتلة بالفعل، وأميركا كان عنوانها ذلك الموظف البائس الذي اسمه بول بريمر، ثم إنَّ ما زاد الطين بلة أن الذين جاءوا مع دبابات "الحلفاء" لم ينشغلوا بإعادة بناء بلدهم، بل بجمع الأموال وبالمناكفات وبالتناحر الطائفي خدمة لتطلعاتهم السياسية. ربما يكون هذا مؤامرة وتآمراً، وربما يكون إهمالاً وعدم معرفة، لكن الأميركيين الذين جاءوا لتخليص العراقيين من دكتاتورية بغيضة بادروا إلى فتح أبواب العراق لكل اللاعبين في الإقليم وفي هذه المنطقة وأيضاً في العالم كله، وفي مقدمة هؤلاء إيران، باستخباراتها وتطلعاتها التمددية، التي عاثت في هذا البلد فساداً ومؤامرات ومزقته شر ممزق، وحولته إلى مجرد خنادق مذهبية متقابلة متقاتلة.كان على الذين رافقوا قوات "الفتح"!، التي أسقطت نظام صدام حسين وألغت دولته وحلَّت جيشه وأجهزته الأمنية، أن يبادروا، بدل الاقتتال على المغانم والانحيازات الإقليمية، إلى توحيد صفوفهم المهلهلة وإلى الاتفاق على برنامج الحد الأدنى لإعادة بناء بلد هرسته أعوام الدكتاتورية البغيضة هرساً ودمرته الحروب العبثية وشتتت شمل مكوناته الاجتماعية الأيدي الممتدة من الخارج، وأنهى كيانه بول بريمر بسياساته الخرقاء وبقراراته التي دارت حولها شبهات كثيرة.والمشكلة أن هذا البلد العربي المحوري قد تحول إلى فريسة للطائفيين والمذهبيين ولإيران ولكل الأيدي الممتدة من الخارج، وعلى رأس هؤلاء نظام بشار الأسد... هذا ما غيره، والعرب يتفرجون ولا يحركون ساكناً وكأنهم لم يسمعوا بذلك المثل القائل: "أُكِلتُ يوم أُكِل الثور الأبيض" وكأنهم لم يدركوا أن وصول الإيرانيين إلى بغداد قد أوصلهم إلى دمشق وإلى بيروت وإلى صنعاء... وأنه سيوصلهم أيضاً، إذا لم تستفق هذه الأمة، إلى عواصم عربية أخرى كثيرة.لقد أصبح العراق في أوضاع أخطر من أوضاع سورية بألف مرة، وأكثر تهديداً لأمن الدول العربية المجاورة والبعيدة مما يظن البعض، ولهذا فإنه لابد من التفاتة عربية جادة نحو هذا البلد العربي الذي ليس معروفاً إلى أين هو ذاهب... والالتفاتة المقصودة ليست تحشيداً طائفياً مقابلاً ومعاكساً للتحشيد الإيراني، بل سعي جاد لتطويق هذه الفتنة بالانفتاح على المراجع الشيعية العروبية والقومية، وبدعم المعارضة السورية المعتدلة لإنهاء هذا الوضع الشاذ في سورية، لأن إنهاء هذا الوضع الشاذ في سورية هو الطريق إلى إعادة بلاد الرافدين إلى المسار الصحيح.