يمكن القول إن الدراما بملمح الصراع البارز فيها تكاد تكون واقعاً معيشاً وثيق الصلة بالحياة وإيقاعها قبل أن تكون ملمحاً فنياً. فالحياة لا تسير بخط مستقيم باهت ذي اتجاه واحد، وإنما تنطوي على مظاهر متعاكسة ومتناقضة، وأحوال باطنة وظاهرة، ومشاهد هي نسيج من التقابل والتوازي والسلب والإيجاب. وإن كانت طبيعة الحياة تقوم على هذا البناء الدرامي، فبالضرورة سيكون إنسانها كذلك في فكره وحركته ومواقفه وفنه. ورغم هذا الأساس الدرامي الذي تقوم عليه الحياة عامة إلا أنه يبقى أساساً قائماً على الصدفة والفوضى والتشظي، فيأتي الفن ليعلو به نحو قيم القصد والنسق والنظام ليس إلا، إذ يبقى عنصر الحياة ونسيجها المدماك الأهم في العمل الإبداعي.

Ad

 وللدراما جذور غائرة في تاريخ الفن، فقد ارتبط الشعر منذ نشأته بالدراما والفعل الدرامي. فكانت المأساة ثم الملهاة عند أرسطو من أرقى أنواع الشعر، بل أكثرها أهمية وتأثيراً من الشعر الغنائي/ الذاتي. ولم يقلل أرسطو من أهمية الشعر الغنائي إلا لكونه أولاً أثراً من آثار  "الوعي الفردي" كما يقول، وثانياً "لخلوه من مقومات الفن ذي الأغراض الاجتماعية".

ومنذ ذلك الوقت المبكر في التقعيد والتنظير لفن الشعر تبرز مسألة وجود "الآخر" كقيمة فنية وخلقية عظمى، وضرورة التعامل معه كعنصر ذي اعتبار عند الذات الشاعرة التي تحاوره وتناوره وتخلق معه سياقاً من القول والفعل قائماً على عنصر جوهري في الحياة والفن معاً وهو عنصر الصراع الذي يشكل الروح المتوهجة للفعل الدرامي.

 أما مفهوم الشعر عند العرب فيكاد منذ نشأته لا يخلو من هذه النظرة التقييمية لدوره الحقيقي في الحياة، وهو دور يقوم أساساً على التفاعل مع الآخرين وتنكب مسؤولية تمثيلهم والانتصار لقيمهم والدفاع عنهم. وهذا كله يصنع دراما حياتية موّارة بالصراع وممثلة لأطراف ذات مواقع متعاكسة ومتناقضة وظروف تنحو نحو التقابل والمواجهة. وعلى الرغم من تواتر المقولات بغنائية الشعر العربي أي ذاتيته، إلا أنه يبقى في روحه ذا ملمح صراعي واضح. فما المدح والرثاء والفخر والهجاء إلا حضور طاغٍ "للآخر" / المهادن أو المناوئ، وهيمنة لقيم اجتماعية معقدة ومتنامية في سياقاتها الشعرية، كانت تمتلك من السطوة ما يجعلها قيماً فنية أساسية في القصيدة العربية. بل حتى النسيب والغزل والوقوف على الأطلال وتذكر الراحلين ما هو إلا نمط أكثر تمثيلاً وتمثلاً لحضور "الآخر" ولروح الجماعة والبيئة ونسق الحياة المعيشة التي هي في النهاية مسرحاً للصراع مع الآخرين بمستويات مختلفة، وليس فقط مستراحاً لعواطف ومشاعر "الفرد" وتأملاته.

ولعله يحق للمتأمل في هذا الصدد أن يرى ظلال السمة الدرامية في هذا اللون من الشعر العربي الذي سُمي غنائياً، وأن يلمس مكوناتها من خلال ما فيه من فعل وحركة وشخوص وحوارات وخلفيات بيئية، وما ينطوي عليه كذلك من صراعات، وتطورات في الأحداث، وبلوغ لذروتها ثم انفراجها. ناهيك عن الاشتغال بحبك حيثيات هذا العالم الشعري وجزئياته لحين الوصول إلى الشكل النهائي الذي يرضي ذوق الشاعر وذوق المتلقين ويحقق معايير فنية متفقا عليها تحت ما يُسمى "بعمود الشعر". وما "عمود الشعر" في النهاية إلا تمثيل حقيقي لذائقة المجتمع أي "الآخر" وتوجهات هذا "الآخر" وقيمه الملزِمة، أكثر من كونه قواعد وأصولاً نقدية أو فنية بحتة.

كذلك يمكن القول إن المسرحية التي كانت تُنسج أساساً من الشعر كالمأساة والملهاة ستترك ولا شك بعضاً من ملامحها على عالم الشعر عامة حتى الغنائي أو الذاتي منه. وتلك الملامح إن لم تتضح في الفعل الدرامي الصريح الذي يُجسد في الفعل والحركة والحوار والحدث على خشبة المسرح، فإنها قد تتضح في الروح الدرامية الخفية المندسة في نسيج النص الشعري. هذه الروح الدرامية يمكن أن تتمثل بحضور "الآخر" سواءً كان شخصاً أو قيمة أو ظاهرة، وتتمثل أيضاً باعتماد النص الشعري على "الصراع"، وهو عنصر بالغ الأهمية وعمود أساسي في الشعر الغنائي. فالنص الشعري مهما كان موغلاً في الذاتية، فإن الشاعر لا ينفك يجد نفسه في مواجهةٍ وسجال دائمين مع ما يتحدى مشاعره أو قيمه أو يقينه. ومن هنا نجد أن ذاتية الشاعر الغنائي ليست إلا ذاتية وهمية لا تستطيع أن تخرجه من نسيج وجوده في الحياة ، وهو وجود كما نرى قائم ومتأسس على عنصر "الدرامية" بشكل قدري لا مناص منه.