تبدّلت مدينة لندن كثيراً، فلا تزال الحافلات وسخة والناس عدائيين وسلبيين، لكن لندن تغيّرت، ونلحظ هذا التغير أينما نظرنا، فتبدو قصور مناطق العاصمة الأرقى فارغة، بعد أن بيعت للأثرياء الروس والأمراء القطريين.
كذلك لم تعد المؤسسة الإنكليزية كما كانت في الماضي، فقد باتت تلك النخبة الاستعمارية القديمة أقل رقياً وأكثر ميلاً إلى التجارة والمال. على سبيل المثال، التُقطت أخيراً صورة لموظف حكومي بريطاني وهو يصل إلى شارع دونينغ لحضور اجتماع لمجلس الأمن القومي وفي يده مستند مفتوح، فأمكننا قراءة أسطر من تقرير سري عن الرد الأفضل الذي يجب أن تتبناه حكومة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون تجاه أزمة القرم، أوصى التقرير بألا "تدعم بريطانيا العقوبات التجارية في الوقت الراهن"، كما يجب "ألا تقفل مراكز لندن المالية أمام الروس".في المقابل، فرض البيت الأبيض قيوداً على تأشيرات السفر الخاصة ببعض المسؤولين الروس، كذلك أصدر الرئيس أوباما أمراً تنفيذياً يفتح المجال أمام عقوبات إضافية، لكن بريطانيا قوّضت أي عمل موحّد بوضعها مصالح المصرفيين أولاً.إليكم ما آلت إليه الأمور: تبدو بريطانيا مستعدة لخيانة الولايات المتحدة بهدف حماية سيطرة مدينة لندن على المال الروسي الوسخ، ولا تأبه بأوكرانيا.تعتبر بريطانيا نفسها دولة تجارية مفتوحةً أمام الأعمال والشركات، إلا أنها ما عادت تملك "مهمة"، فقد تبددت أي بقايا أخلاقية في الإمبراطورية البريطانية، التي عادت إلى مرحلة إنكلترا الانتهازية خلال عهد السير والتر رالي. لا يقتصر تفكك الطبقة البريطانية الحاكمة على اعتبار كاميرون رجلاً يتمتع بمواهب استثنائية، بل يتعداه إلى مرحلة باتت فيها أولويتها الرئيسة حماية نسبتها من المال الروسي، مع أن حاملات الجند المدرعة الروسية تجوب اليوم شوارع سيفاستوبول. تدرك هذه المؤسسة أن الأهم في القرن الحادي والعشرين يبقى المصارف، لا الدبابات. يعي الروس أيضاً هذا الواقع، فهم يدركون أن لندن مركز للفساد الروسي، وأن غنائمهم تتدفق إلى الجنات الضريبية في الإمبراطورية البريطانية (من جبل طارق إلى جيرسي ومن جزر كايمان إلى الجزر العذراء البريطانية) التي لا تغيب عنها الشمس.المساكن البريطانية معروضة للبيع، ومن الممكن شراء "تأشيرات الدخول الخاصة بالمستثمرين" بدءاً من مليون جنيه إسترليني (1.6 مليون دولار)، كذلك يحصل محامو لندن في المحكمة التجارية على 60% من أعمالهم من عملاء روس أو أوروبيين شرقيين، فضلاً عن ذلك، تنشّط أكثر من 50 شركة مقرها في روسيا التعاملات التجارية في بورصة لندن، أما تنظيمات التخطيط فنُسيت، وعلى طول نهر التايمز، ترتفع أبراج الفولاذ والزجاج لتستقبل طبقة صناديق التحوط.علاوة على ذلك، تحوّل شبان بريطانيا الأذكياء إلى مستشارين، وتجار تحف فنية، وموظفين في المصارف الخاصة أو صناديق التحوط، أو بعبارة أخرى، خدام الطبقة الثرية.يدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذا الواقع: تدفع لهم، فتمتلكهم. كان بوتين واثقاً بأن المديرين البريطانيين، الذين لا ينفكون يتنقلون بين المناصب الحكومية والمجالس المالية، لن يتخلوا مطلقاً عن رسومهم وعمولتهم من أموال النخبة الثرية الروسية، وأصاب في تفكيره هذا.خلال سنوات التقشف التي لم تشهد أي نمو عقب الانهيار المالي عام 2008، ما كان بالإمكان مقاومة مصدر الثروات الوفيرة هذا. نتيجة لذلك، تحوّل توني بلير إلى نظير عصري للسير والتر رالي خلال حقبة بريطانيا الانتهازية، إذ يعمل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق هذا اليوم مستشاراً للحاكم الكازاخستاني نور سلطان نزارباييف. فيطلعه على الطرق الفضلى ليحافظ من خلالها على صورته أمام الغرب، ويتقاضى بلير مبالغ كبيرة من المال ليرشد رب عمله إلى وسائل التهرب من عمليات القمع والقتل التي تشكّل جزءاً من الحياة اليومية الكازاخستانية.إذاً، هذا ما آلت إليه الأعمال التي تساهم في النمو البريطاني: تبييض ملايين الأثرياء الوسخة وتجميل صورتهم المشوهة.ولكن كان من الممكن أن تسير الأمور بالعكس، فالعقوبات المصرفية تقفل الخطوط التي يمرر عبرها المسؤولون الفاسدون المال الروسي، أما القيود التي تُفرَض على تأشيرات السفر، فتمنع وزراء الكرملين من التمتع بقصورهم، ومن الضروري أيضاً فرض المساءلة على الجنات الضريبة التي تسلب الموازنة الوطنية المليارات، وهكذا تملك بريطانيا القدرة على إفلاس المحيطين ببوتين.بن جوده
مقالات
لندن... عاصمة الأموال القذرة لأثرياء الروس الفاسدين!
11-03-2014