خلال جولتي في أميركا الجنوبية، قضيت عدة أيام في غابة الأمازون، عبر ميناء بورتو ملدينادو، من جهة بيرو، التي تشترك مع البرازيل في حوض الأمازون. وكانت تلك الأيام أكثر أيام الجولة حركةً وانتعاشاً وصفاءً. كنا نسير على الأقدام مسافات طويلة، نستمع إلى أصوات الطيور الغريبة، وحفيف الأشجار المتواصل، ونرى النمل يبني ما يشاء أينما شاء، والمطر ينهمر دون توقف، رغم أن الموسم يُفترَض أنه موسم جاف، وسأتحدث عن تلك التجربة لاحقاً.
خلال تلك الجولة، وهي المرة الأولى التي أقيم في غابة حقيقية، هي من أشهر الغابات على الأرض، كانت تتردد في ذهني الصورة النمطية عن الغابة، والتي حُفِرت في أذهاننا عبر الزمن. فنحن عادة ما نستعمل مصطلح "حكم الغاب"، أو "شريعة الغاب"، كتعبير عن حالة التسلط، وغياب القانون، والتعدي ظلماً على الآخرين، وهيمنة القوي على الضعيف. أظن أنه صار لزاماً علينا مراجعة هذه الصورة النمطية، وربما تصحيحها. وما إن خرجت من تلك الغابة بعد انقطاع كامل عن العالم الخارجي، فلا تلفزيون ولا هواتف نقالة ولا إنترنت ولا وسائل تواصل "اجتماعي"، والتي يفترض أن تكون كذلك، وما إن عُدت إلى العالم "الطبيعي"، الذي يُفترَض أن يكون عكس المفاهيم الراسخة بأذهاننا عن الغابة، حتى صدمتني أخبار ما يجري في الدنيا من قتل وتدمير وإقصاء. فربما نحن من يعيشون في الغابة المفترضة، بكل المعاني والقيم القائمة على الفوضى واستلاب الناس وقتلهم والعدوان عليهم، وإيجاد المبررات "المنطقية" و"القانونية" و"الدينية" للعدوان والإقصاء وانتهاك حقوق البشر، وبالذات الضعفاء الذين لا يملكون الدفاع عن أنفسهم. حقاً، تساءلت، أين هي الغابة كمعنى للظلم، وليست كمكان ظليل عليل تصدح فيه الأطيار؟ فربما تكون الغابة بداخلنا، وفي نمط تفكيرنا الذي يتيح لنا أن نشجّع قتل الآخرين، وعزلهم، وندعو إلى ذلك لأنهم يختلفون عنا ديناً أو لوناً أو عرقاً أو لغة أو غير ذلك. نعم نحن نعيش في غابة كما تصورناها، فلم تكن إلا مرآة عاكسة لنا، وصار علينا أن نجعل منها مكاناً قابلاً للعيش للجميع دون استثناء.
أخر كلام
أين هي الغابة؟!
18-08-2014