أكتب هذه المقالة بواسطة كمبيوتري الكفي، وذلك باستخدام برنامج لوحة مفاتيح جديد يستخدم طريقة جديدة في الطباعة. الفكرة الجديدة أن هذه اللوحة لا تعتمد على الضرب على أزرار الحروف إنما مجرد تحريك الأصابع على الشاشة بطريقة المسح باتجاه مواقع الحروف، ولو بشكل تقديري ليتعرف البرنامج بعد ذلك على الكلمة المقصودة تلقائيا.

Ad

 البرنامج ناجح في التعرف على الكلمات بنسبة تصل إلى تسعين في المئة وأكثر، ويزداد كفاءة مع استمرار الاستخدام، حيث إنه يتدرب بشكل آلي ليقوم بتطوير قاموس الكلمات مع مرور الوقت، واسمه هو المفتاح السريع swift key! والهدف منه، كما هو واضح، جعل عملية الطباعة أسرع، واختصار الوقت.

تعود بي الذاكرة إلى سنوات ليست بالبعيدة جدا يوم كان الإنترنت يستخدم خطوط الهاتف القديمة لنقل البيانات، وكان يحتاج لعمله أن تشغل الخط طوال فترة الاستخدام مصدرة أصوات تصفير وقرقعات غريبة كأنها إشارات قادمة من الفضاء السحيق، أذكر أيامها أننا كنا نطلب رابط الموقع في أول المساء ونترك الكمبيوتر يقوم بالعجن والطحن طوال الليل لنعود إليه في الصباح فنجده وقد وصل إلى المطلوب أو كاد فنشعر بالنشوة لتطور التكنولوجيا.

وتطورت الأمور حتى وصلت اليوم إلى أن الواحد منا يضغط زر هاتفه الجوال لتحميل فيديو يبلغ حجمه عشرات الآلاف من البايتات، أي عشرات أضعاف حجم ذلك الموقع الذي كنا نطلبه في تلك السنوات الجميلات السالفات، فيبدأ مباشرة بالتأفف إن لم يجده قد وصل إليه خلال ثوان، بل لا يتردد في أن يقول بكل ثقة متذمراً: الإنترنت بطيء جدا هذا اليوم!

منذ أيام نشرت على الإنترنت مقطع يوتيوب يحوي بعض الفقرات التي وردت في كتابي الجديد بصحبة كوب من الشاي، وكانت مدته لا تتجاوز الدقيقة والربع، جاءني بعدها مباشرة تعليق ظريف من أحدهم بأن المقطع طويل جدا! الناس اليوم يا سادتي ما عادت تحتمل الانتظار لأكثر من دقيقة!

كل شيء في الحياة صار سريعا، وسائل النقل تسابق بعضها بعضاً براً وبحراً وجواً، ووسائل الاتصال تتبارى فيما بينها أيها ينقل البيانات أسرع، والقنوات الإخبارية تبث موادها بأسلوب الموجز والتلخيص المركز؛ والوجبات سريعة، والزواجات سريعة، والطلاقات أسرع!

شخصيا، أنشغل مؤخرا بالعديد من الأنشطة العملية والاجتماعية، ما بين محاضرات ودورات تدريب وورش عمل متنوعة وكتابة وتأليف ووظيفة والتزامات اجتماعية، فأركض بينها بلا هوادة، محاولا السيطرة عليها جميعا، وكأني لاعب سيرك يحاول أن يدير عشرين صحنا على العصي فوق رأسه، وأحاول في ذات الوقت أن أكون متصلا طوال الوقت بشبكات التواصل الاجتماعي!

رباه، ما الذي دهانا يا ترى؟! لماذا نركض وكأننا في سباق محموم؟! لماذا نندفع بهذا الشكل المجنون وكأننا نسعى للقبض على اللحظة الراهنة وإيقاف عجلة الزمن، ونحن نعلم يقينا أننا لن نستطيع؟! ولماذا صرنا أيضا نريد اختزال كل لحظات أعمارنا في صور فوتوغرافية ومقاطع فيديو لا تتجاوز خمس عشرة ثانية وعبارات لا تزيد على مئة وأربعين حرفا؟!

لماذا فقدنا القدرة على الاستغراق في اللحظة الراهنة والاستمتاع بها إلى أقصاها وأقصانا، كما كنا سابقا، دون أن تمتد أيادينا نحو هواتفنا الجوالة لمشاركتها مع أولئك الغرباء في فضاء الشبكات، قبل أن نتشارك ولو شيئا من لذتها مع أحبائنا الحقيقيين بقربنا؟!

حين تجبرني الظروف مؤخراً على الانقطاع عن وسائل التواصل لسبب من الأسباب ولو لدقائق معدودة سرعان ما ينتابني شعور أشبه ما يكون بالوحشة أو الانقطاع عن نبض الحياة، وكأني فقدت السيطرة على مجريات الأمور، أو انفصلت عن الدنيا!

شعور زائف وإدمان يحتاج علاجا دون تردد.

أقول هذا لأني وجدتني في كل مرة أتمالك نفسي وأصمد مغالبا هذا الشعور لبعض الوقت، سواء في الحل أو الترحال، أجدني وقد استغرقت في حالة من سكينة الروح وهدوء البال.

نحن، وأنا أولكم، بحاجة إلى ثورة تصحيحية لإعادة الأمور إلى نصابها، وتحرير أنفسنا من هذه العبودية الجديدة لهذه الأجهزة المتوحشة، وبحاجة أيضا إلى أن نتوقف عن حقن أيامنا وساعاتنا ودقائقنا وثوانينا بعشرات المشاغل والالتزامات، فنتوقف لبعض الوقت ونلتفت إلى أنفسنا أولاً، ومن ثم إلى أحبتنا ومن يعنينا أمرهم حقا، لنستمتع بالحياة الحقيقية، قبل أن يؤذن المؤذن ينادينا بالرحيل!