قد لا يخفى على من يتأملُ في نتاج «عمر أبو ريشة 1910 - 1990» ارتباطُ «الأنا» لديه بمسألة الخلق الشعري ارتباطاً وثيقاً. فكأني بالشاعر لا يرى كينونته وتحقيق ذاته إلا من خلال الاشتغال بهذا الفن، بل لكأن الانكبابَ على سبك الشعر ونحته وتجويده ما هو إعلانٌ عن هذه «الأنا» في طموحها وتطلعاتها الباذخة. ويبدو أن انخراط الشاعر بالسلك الدبلوماسي وبروزَه في هذا المجال عزّز في نفسه هذا الوعي بأناه وتميّزه، ثم كرّس هذه الأنا بصورة أوضح تألقه كشاعر قومي وطني تغنى كثيرون بقصائده المكرسة لاستنهاض الهمم ونقد الواقع السياسي الفاسد.

Ad

في رحلة اشتغال عمر أبو ريشة على تكوين ذاتِه الشاعرةِ المبدعة، وهي ذات عززتها شخصيتُه الدبلوماسية وشخصيته الوطنية القومية، عثر على المرأة كمشروع شعري مؤثر ووثيق الصلة بالرؤى الإنسانية والجمالية والوجدانية، بل ذي صلة أيضاً بأبعاد صوفية ووجودية عميقة الغور.

وفي الوقت الذي يحتاج فيه هذا المشروع الشعري إلى «موتيف» إنساني وهو المرأة، فإنه يحتاج في الوقت ذاته إلى «لغة» شعرية تكون له بمثابة الهيكل أو القالب الذي يلمّه ويحتويه. وحين يولدُ النصُ الشعري من هذا التزاوج بين المرأة واللغة، يخيل للمتأمل بأن الشاعر قد وصل إلى أغلى أمانيه!

إن نصوصاً مثل «هي الدنيا» و»اقرأيها» و»أتغضبين» و»طموح» تشعر بذلك التماهي بين المرأة والنص، وكأن المرأة تخرجُ من رحم النص أو يخرجُ النصُ من رحم المرأة ليحيا ويبقى ويخلد. بل لكأن هناك عَقداً موثقاً بين الحب والإبداع، وأن لكل منهما نفسَ القدر من الحاجة إلى الآخر ليتحققَ ويكتمل: هي بما ترضي به غرورَها وأنوثتها، والنص ليُكتبَ ويُدوّن ويكون علامة على موهبة الشاعر وتميّزه.

إن هذا الوعيَ المبالغ فيه إزاء مسألة الاشتغال بفن الشعر، وكون هذا الاشتغال الدؤوب غاية أساسية من غايات الحياة، ربما جعل الشاعرَ يتفوّق في حبِّ الفن أكثر من فن الحب! فجاءت المرأة في هذا السياق كموتيف أساسي من موتيفات هذه العمارة الفنية أو المشروع الشعري.

ولكن يبقى للحب عند الشاعر وجهاه الأكثر حضوراً وتأثيراً وهما وجهُ الغبطة والفرح من جهة ووجهُ الآلام والأحزان من جهة أخرى. وعلى أوتار هاتين الضفتين يحيك الشاعر سجالَه الإنساني اللامنتهي.

يبرزُ الجمال في شعر أبو ريشة كقيمة من القيم العليا في الحياة والفن، ليكون مدخلاً للتقدير والتجاذب ومصدراً للغبطة والفرح القلبي، ومناسبة للاحتفال بتفتق الحياة. وحين يأتي الوصف المتأني لأعطاف المرأة ولغة جسدها الضاجة بالعنفوان، قد تُدهش بتلك القدرة على استبطان ما خفي من دواخلها وتهاويمها، وما دقّ من حركتها النفسية. ولكن رغم تقديس الشاعر للجمال، فإنه يظلُّ مسكوناً بخوف الصيرورة والبلى. فيتمنى على محبوبته في أحد نصوصه أن تتحولَ إلى تمثالٍ حجري، فلعل الزمنَ أيضاً يتجمدّ عند لحظة السعادة... لا يريم. وشقاء الحب لا يقف عند مسألة خضوعه للصيرورة والانتهاء، وإنما قبل ذلك هناك سلسلة من آلام الغيرة والفراق وعذابات الارتهان لقيد الحب وذله. أما الغيرة من ظل الرجل الآخر، والحديث عن امتلاء القلب بالمرارات والحنق والنقمة فكثيرة الدوران في نصوص الشاعر.

حين نأتي إلى الروحانية المتصوفة وعلاقتها بالحب والمرأة لدى الشاعر، قد يحيلنا ذلك إلى البحث عن منابع هذه الرؤية الشعرية الموغلة في إنسانيتها. فنكتشف أن وراء هذه النظرة امرأةً أخرى، هي أمُّه. تلك المرأة التي تربت في أجواء الطرق الصوفية، وعشقت الشعرَ الصوفي، وكان بيتُ والدِها يعبقُ بالأوراد والأذكار.

في الصوفية هناك دائماً شوقٌ للبعيد وظمأ لغير المتحقق، وبحثٌ دائم عن ما يشبه السراب في نقائه وغوايته واستحالته. ويبدو أن مخيلة الشاعر انطوت على هذا البعد الفلسفي الوجودي في علاقته بالحب، وكيف يغدو هذا الحب مسكوناً بهواجس الكينونة والبحثِ عن التحقق والاكتمال، أو الرغبةِ بالاندغام والتوحّد. وهو في ارتياده هذا السبيل الوعر يكاد يستقرئُ – وهو في مقام الكتابة- عذاباتِ الرحلة وأشواكَ الطريق ومراوغاتِ الحالة الذهنية والشعرية وهي بصدد اصطياد ظباءِ السراب وغزلانِه الشاردة.

وقد يعودُ الشاعرُ بعد هذه المجاهدة بحصاد وفير، ولكنه حصادُ الذات التي اكتشفت معاني أخرى للحب، فعرفت الحبَّ الوجودي العدمي، ومدى صلتِه بعنصر الزمن، ونزوعهِ للصيرورة والانتهاء وموت المسرات. فلا يبقى في جعبة المحب غيرُ الخسران والذكرى والعمرُ الهارب. إنه حب عدمي كالحياة الهاربة والزمن المنفلت، وكالوقت الذي ما نكادُ نملكُه حتى يتسرب َمن فروج الأصابع وثقوب اللحظة.