يبدو أن الإدارة الأميركية قادرة في النهاية على اعتماد دبلوماسية قوية قاسية. فيستطيع هؤلاء المسؤولون شن هجوم شرس، لأن الدبلوماسية في رأيهم رياضة دموية يُعتبر كل شيء فيها مباحاً، شرط أن تؤدي في النهاية إلى النصر. لكن المؤسف أن البيت الأبيض لا يستخدم هذه المهارات ضد خصوم الولايات المتحدة، بل ضد حلفائها، مثل إسرائيل وفرنسا.

Ad

تذكر صحيفة "هاآرتس" أن الإدارة ضللت إسرائيل ولم تطلعها على الشروط الحقيقية المقترحة لاتفاقها المؤقت مع إيران بشأن برنامجها النووي العسكري. أوضح أحد المسؤولين الإسرائيليين البارزين أن إسرائيل اطلعت يوم الأربعاء الماضي على اتفاق مبدئي "لم يرق للإسرائيليين، إلا أنهم يستطيعون تقبله". وعندما وصل كيري إلى جنيف، كانت بعض التفاصيل لا تزال عالقة قبل التوصل إلى اتفاق. لكن المشكلة لم ترتبط بالجانب الإيراني، بل بفرنسا التي رفضت التوقيع على نص جرى التوافق عليه في المسودة. بكلمات أخرى، بعد تضليل الإسرائيليين، أملت الإدارة تقديم الصفقة على أنها أمر واقع، إلا أن وزير الخارجية الفرنسية لوران فابيوس أنقذنا في الوقت الراهن بإفشاله الاتفاق.

أوضح فابيوس أن فرنسا لن ترضى بـ"صفقة سيئة"، صفقة تسمح للإيرانيين بمواصلة تخصيب اليورانيوم، وتصنيع أجهزة الطرد المركزي، وبناء مفاعل بلوتونيوم في "آراك"، في حين أنها تخفف في الحال من العقوبات المفروضة على إيران وتحرر مليارات الدولارات من عائدات النفط. يظن البعض أن فرنسا عرقلت هذا الاتفاق بسبب صفقة السلاح التي عقدتها مع المملكة العربية السعودية. أما الإيرانيون، فيقولون إن الصهاينة هم مَن غسلوا على الأرجح دماغ فابيوس. ويعتقد آخرون أن للأمر علاقة بسورية وبالطريقة التي تخلى بها البيت الأبيض عن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بعد أن أعلن أوباما أنه سيوجه ضربة إلى بشار الأسد وحاز دعم هولاند ليتراجع في النهاية. أو ربما السبب، كما غرد رئيس المجلس الوطني الأميركي- الإيراني تريتا بارسي، أن فابيوس "يكنّ حقداً عرقياً للإيرانيين". باختصار، لا بد من وجود توضيح سري بالغ الأهمية وراء عناد الفرنسيين لأن من المستحيل أن يرفضوا هذه الصفقة مع مزاياها.

ذكر كيري بعد أن أخفقت الصفقة: "لسنا عميانا ولا أعتقد أننا أغبياء". لكن الإدارة الأميركية مخادعة، ومتعجرفة، وغير كفوءة. وهذه بالتأكيد تركيبة سيئة في الشؤون الدولية. سيصب الجميع، بمن فيهم المشرعون الأميركيون، اليوم كل انتباههم على الجولة التالية من المفاوضات المقرر عقدها في 20 نوفمبر. وسيولون أهمية كبرى لإسرائيل وفرنسا على وجه الخصوص. من المقرر أن يزور هولاند في الأسبوع المقبل إسرائيل، حيث سيخاطب الكنيست. ولا شك أنه سيلقى الترحيب الحار والتشجيع على التمسك بموقفه.

لا يمكن لاستعراض الشجاعة الذي قدمته فرنسا أن يخفي تصميم إدارة أوباما على عقد صفقة مع إيران. ومن الأسباب التي دفعت هذه الإدارة إلى اتخاذها إيران شريكاً في المفاوضات وعزلها الحلفاء الأميركيين واقع أن الصفقة الإيرانية تشكل تفصيلاً واحداً في صورة أكبر بكثير. فيريد أوباما أن ينتهي من هذه المسألة لأن هدفه الرئيس إنشاء بنية إقليمية جديدة، بنية تُخرج إيران من عزلتها، سواء قبلت إسرائيل والمملكة العربية السعودية ذلك أو لا.

ذكر أوباما في شهر أكتوبر الماضي في الجمعية العامة للأمم المتحدة أنه "ما من لعبة كبيرة لنفوز بها". كذلك أعلن خلال اجتماع مماثل عام 2009 أنه "ما من ميزان قوى بين الأمم سيصمد". إذن، ما عاد الحلفاء بالأهمية التي كانوا عليها سابقاً، شأنهم في ذلك شأن الهيمنة الأميركية في منطقة ذات أهمية استراتيجية كبيرة، مثل الخليج العربي. نتيجة لذلك، ستؤدي استراتيجية أوباما الكبرى في الشرق الأوسط إلى الحد من مكانة الولايات المتحدة في المنطقة.

لا نعلم ما إذا كان مسؤولو الإدارة، أمثال كيري، يدركون علامَ يوقعون. فعندما كان كيري في القدس الأسبوع الماضي، حذر من الانتفاضة الثالثة وعارض احتلال الضفة الغربية. كان كيري نفسه تواقاً إلى استئناف عملية السلام، معارضاً رغبة أوباما، الذي منحه في شهر يونيو ثلاثة أشهر "لاستئناف المفاوضات". إلا أن غضب كيري حيال المستوطنات لا دخل له بمسيرة السلام، بل كان هدفه انتقاد نتنياهو. صحيح أن أوباما أخفق في عملية السلام خلال ولايته الأولى، لكنه يعتبر أن الضغط الأميركي على زعيم إسرائيلي قد يقلق تل أبيب ويشغلها طوال أشهر. وبحمل نتنياهو على اتخاذ وضعية الدفاع في عملية السلام، تستطيع الإدارة الأميركية المضي قدماً في الصفقة الإيرانية.

ما يُثير الاهتمام في هذا المجال استغلال أوباما المدروس والماكر لعملية السلام، علماً أن هذه العملية تُعتبر من أهم محاور مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية وأبرزها. فمن المؤثر في هذه المرحلة رؤية مسؤولي الإدارة يغدقون كل هذا الاهتمام على عملية السلام، التي لا تبدو ملائمة البتة نظراً إلى وضع المنطقة الراهن. رغم ذلك، أخبر وزير الدفاع الأميركي، تشاك هيغل، أخيرا جيفري غولدبيرغ أن "المصالح الاستراتيجية الأميركية الرئيسة" تتمحور حول "التوصل إلى اتفاق سلام [بين الإسرائيليين والفلسطينيين]، والعمل مع حلفائنا على نشر الأمن والاستقرار في المنطقة، وتطوير احترامهم لكرامة الإنسان، وإدراك أن التيارات الاثنية والدينية تتعارض مع هذه التيارات".

كما أشار غولدبرغ، يُعتبر هيغل من أنصار فكرة "الربط"، التي تعتبر أن تسوية الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني يُشكل مفتاح حل الكثير من مشاكل المنطقة الأخرى. ربما كان أوباما يفكر هو أيضاً بهذه الطريقة. فقد أعلن عام 2008 أن السلام الإسرائيلي- الفلسطيني "يضعف إيران... وإذا توصلنا إلى صفقة سلام إسرائيلية- فلسطينية، مع فصل سورية في الوقت عينه عن المدار الإيراني على الأرجح، سهل علينا عزل إيران، ما يصعب عليها تطوير سلاح نووي".

إذا كان أوباما يظن ذلك حينذاك، فما عاد اليوم يرى العالم بهذه الطريقة. فبسعيه لعقد صفقة مع طهران لا تبطل، أو حتى تجمد، التقدم الذي حققه الإيرانيون في سعيهم لتطوير سلاح نووي، لا يحاول أوباما أن يصعب عليهم إنتاج قنبلة. ولا يأبه أوباما حتى بانفصال سورية عن المدار الإيراني لأنه بتوقيعه المبادرة الروسية للتخلص من أسلحة بشار الأسد الكيماوية والمحافظة بالتالي على النظام السوري، يكون الرئيس الأميركي قد استسلم لإيران في سورية. ومع أن كل مسؤول بارز في إدارته، باستثناء كبير موظفي البيت الأبيض دينيس ماكدونو، استخلصوا أن على الولايات المتحدة تسليح الثوار لإسقاط الأسد، رفض أوباما "العديم الصبر والرافض للتدخل" تحريك ساكن.

يشير ذلك إلى إجماع أميركي رئيس بشأن السياسة الخارجية في الشرق الأوسط يضم الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، إلا أن أوباما ما زال خارجه. يفترض مسؤولو الإدارة وداعمو أوباما في وسائل الإعلام أنه يرى العالم كما يرونه، ولهذا السبب تبدو أفكاره، إذا تأملنا كلاً منها على حدة، منطقية أو حتى مألوفة. ويقول أنصار الرئيس إن إسرائيل تُعتبر بالتأكيد حليفاً أميركياً بالغ الأهمية، إلا أن الإسرائيليين يكونون أحياناً مصدر إزعاج، خصوصاً عندما تتسلم السلطة حكومة من الليكود. وماذا إذا كانت المملكة العربية السعودية مستاءة لأنها لا تحصل على الاهتمام الكافي من أوباما؟ وأين المشكلة؟ دعوها تدافع عن نفسها ولو لمرة. وفي مطلق الأحوال، تتجه الولايات المتحدة نحو تأمين استقلالها في مجال الطاقة. لذلك ما عدنا بحاجة إلى السعوديين بقدر ما كنا سابقاً. كذلك لا نريد خوض صراع مع إيران لأن الأميركيين سئموا من الحرب ومن الشرق الأوسط أيضاً. ويمكننا أن نحتوي دولة إيرانية نووية ونردعها إذا اضطررنا إلى ذلك. بالإضافة إلى ذلك، تشكل المصالحة التاريخية أو الصفقة الكبرى مع نظام الملالي أحد الأحلام الجماعية لمؤسسة السياسة الخارجية الأميركية. لكن ما تقدمه الإدارة الأميركية لإيران لا يُعتبر صفقة، بل استسلام.

يُضعف الرئيس الأميركي قوة عظمى. ولا شك أن الأميركيين سيلمسون هذا الضعف لمسَ اليد بمرور الوقت.

* لي سميث | Lee Smith