غراميات شارع الأعشى
تظل السرديات في الأدب السعودي من أكثر الأعمال الفنية قدرة على تصوير المجتمع السعودي وتحليله ونقده من الداخل، ويأتي نقد التقاليد وحصار المرأة وتنامي السلفية الدينية على رأس الثيمات الكثيرة الدوران في الأعمال الروائية، الأمر الذي يمكن معه اعتبار الرواية شاهداً عصرياً على تنامي ذلك الصراع الخفي بين طرفين، الأول يسعى الى تكريس الصورة النمطية الموغلة في المحافظة، في مقابل طرف آخر يسعى إلى تعرية المثالب والتناقضات والغلو الذي بات يناقض دعاوى الحريات وحقوق الإنسان عالمياً وإنسانياً.ورغم بروز أسماء روائية مهمة في هذا المضمار، مثل تركي الحمد وعبده خال ومحمد حسن علوان، إلا أن جيل الروائيات من الكاتبات السعوديات كانت لهن مساهمات أشد وضوحاً في نقد القهر الاجتماعي الذي تتعرض له المرأة على وجه الخصوص.
وتأتي رواية (غراميات شارع الأعشى) لبدرية البشر ضمن هذه المقاربات، التي تمسّ الشأن النسوي، وخاصة ما يتعلق بعذابات الارتهان لدوائر مغلقة تحجر على الروح والعقل والجسد.تنطلق الروائية من فترة الستينيات والسبعينيات، ثم تمسّ الحراك الاجتماعي الأشد غلواً في العقود التالية، ومن مكان هو مدينة الرياض، مع مناورات حول مشاهد من البراري الصحراوية وأحوال البداوة حين يستدعي الأمر ذلك من خلال الشخصيات المجتمعة تحت خيمة الحكاية، وهذه المناورات أتاحت الفرصة للمقارنة بين حال المرأة في البادية وحالها في المدينة أو الريف، ليكتشف القارئ أن سطوة الحصار والتقاليد أقل وطأة في البادية والريف. فأم متعب، التي ألقى بها قدر الزواج من أحد الرعاة البدو، الذي بدوره تركها لمصيرها فتاة غرة ووحيدة في القفر من صغارها، استطاعت بهامش الحرية القاسي أن تكون لاحقاً امرأة صلبة ومتمرسة في طرق كسب العيش حين وفدت إلى المدينة، بل أنه من الطريف أن أم متعب كان يسمح لها نمط شخصيتها البدوية أن تخالط الرجال وتعمل بالتجارة وتدخل المجالس وتحاجج رجال (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بدهاء وذكاء نادر.وفي مقابل شخصية أم متعب تأتي شخصيات (عزيزة) وأخواتها وجاراتها في مدينة الرياض، يغالبن حصارات متعددة، تبدأ بالعباءة وتغطية الوجه لتمتدّ إلى علو جدران المنزل وغرابة الخروج إلى الطريق، ثم لن تنتهي بحرمة الاختلاط ومنع السفر وحرية الاختيار، بل تمتدّ إلى تقاليد المصاهرة والنسب وجبروت العقد الاجتماعي. وإن كانت نساء الرواية يغالبن هذه الحواجز بحيل طريفة وذكية كأحاديث السطح واللقاءات المسروقة، وتعويض الأحلام ومشاهدة الأفلام والمغامرة بواقع الارتهان، فقد ظلت مسألة الزواج بين المختلفين في الأصل أو عراقة النسب أو الجنسية من الخطوط الحمر بل الشديدة الحمرة، والتي يُدفع ثمنها غالياً في الأغلب.وإن استطاعت (مزنة) ابنة أم متعب أن تتزوج من (رياض) الفلسطيني/ اللبناني الأصل بعد لأي وشقاق ثم قطيعة بائنة، فقد ساعد على تمرير ذلك كونها وافدة صحراوية منقطعة النسب، وليست ذات عروق بين أسر مدينة الرياض. أما أن تفكر (عزيزة) في الزواج من الطبيب المصري بعد قصة حب رومانسية متكتمة فتلك قضية أخرى ومخاطرة لن تمررها أكثر الظروف خيالاً وفنتازية، لذلك تقع (عزيزة) في النهاية ضحية فشلها الذريع في مجرد التفكير في الارتباط بالطبيب المصري الذي سفّه بدوره خيالها الطفل في إمكانية تحقق ذلك.في الرواية الكثير من الآهات النسوية ومشاعر ارتهان العقل والروح والجسد لآلية رتيبة لا تسمح إلا بالعيش على هامش وجود هشّ وعدمي، وإلا بأحلام مجهضة بالطيران والحرية، وإلا بالغوص بالمزيد من اليأس والرتابةتقول عزيزة متأملة واقعها الفقير: "أفتح نافذتي على الأرض الخالية جوارنا، وأضواء الشارع البعيد الشاحبة تلمع في غبش التراب فتغبّش الدنيا كلها في وجهي، فيزداد شعوري بأنني رهينة المكان. كأن العالم كله رحل وبقيت أنا وحدي، لا أحد معي، ولكنني رغم الفراغ والوحدة لا أستطيع الخروج من هنا. في الظلام لا يمشي أحد في الحي ولا تقاطع السكون أي ضوضاء. تمنيتُ لو أمدّ يدي ناحية باب المنزل وأخرج، لأول مرة أتحسس حدودي فأكتشف أنها ضيقة جدا.أنظر إلى سور بيتنا المرتفع من الطابق الأول فأشعر أني وسط بئر بجدران مرتفعة. لم لا أخرج ؟... كنتُ في السابعة من عمري آخر مرة مشيت بلا غطاء. منذ ذلك اليوم لم أعد أرى العالم الخارجي إلا من خلف غلالة مسيّجة بالخيوط ورداء أسود، وحين أذهب إلى الجامعة وأركب مع السائق أترك عينيّ تخرجان من تحت لثام، لكن أنفي يظل محشوراً تحت الغطاء يحول بيني وبين أنفاس الطريق.لا بد أن يحجب شيء ما المسافة بيننا".