لنكن واقعيين، فلا شك أن التأكيد، على غرار الكثير من خبراء السياسة الخارجية، أن "من غير المقبول السماح" باستمرار استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم يختلف كل الاختلاف عن اتخاذ الخطوات لإنهائه.

Ad

هل أسأت أنا فهم التطورات الأخيرة أم أن الخطاب بشأن الأزمة الأوكرانية يعكس فقدان الذاكرة الذي تعانيه واشنطن؟ أيُفترض بنا أن نعبّر عن صدمتنا (صدمة كبيرة) لأن قوة عسكرية ضخمة اختلقت عذراً لتجتاح أمة صغيرة ضعيفة؟ عذراً! ولكن هل نسي الجميع حوادث العراق المؤسفة قبل بضع سنوات؟

أود أن أوضح أولاً أنني متعاطفٌ مع الحكومة الأوكرانية الشرعية، لا مع النظام الاستعماري الجديد في روسيا، لكن الولايات المتحدة لا تُعتَبر صراحةً في موقف جيد يسمح لها بالإصرار على الاحترام الكامل لسيادة الدول ووحدة أراضيها.

فقبل العراق، خضنا حرب أفغانستان، وحرب الخليج، وبنما، وغرينادا، ومع أننا ندين اليوم اعتداء موسكو السافر المشين، نحتفظ بحق إطلاق صواريخ مميتة على باكستان واليمن والصومال، ودول أخرى كثيرة.

من المؤكد أن كل هذا لا يمنح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحق في انتزاع القرم وفصلها عن سائر أوكرانيا وإعادة ضم شبه الجزيرة التاريخي هذا إلى الإمبراطورية الروسية، ولكن من الصعب بناء الاعتراض الأميركي على المبدأ، حتى لو تبيّن أن ادعاء بوتين أن الروس في القرم يواجهون خطراً ما، فارغ... تماماً مثل ادعاء إدارة بوش أن صدام حسين كان يملك أسلحة دمار شامل.

أعربت إدارة أوباما بوضوح عن إدانتها عملية بوتين؛ لذلك يبدو النقاد، الذين يلقون لوم الغزو الروسي على سياسة خارجية أميركية "ضعيفة" أو "غير متقنة"، ساخرين أو عديمي الخبرة.

لا طائل من التلويح بسيوف الحرب، إذا كان العالم بأسره يعرف يقيناً أننا لن نستعملها، فلا تستطيع الولايات المتحدة إرغام بوتين على التخلي عن القرم، إن لم يشأ ذلك، مهما بدا تهديدها العسكري عالي المصداقية. صحيح أن الهيمنة الروسية تراجعت عما كانت عليه خلال العهد السوفياتي، إلا أن روسيا لا تزال قوة عظمى تملك ترسانة نووية تشكّل خطراً وجودياً يهدد أياً من أعدائها، فثمة أمم قليلة لا تهاب ظهور حاملة طائرات أميركية فجأة في أفقها، وروسيا إحداها.

إذا كان الهدف إقناع روسيا بالتخلي عن القرم (ولا نعلم يقيناً أن هذا ممكن)، تقوم الخطوة الضرورية الأولى على محاولة فهم لمَ قرر بوتين غزوها بادئ الأمر.

عندما أصبحت أوكرانيا دولة ذات سيادة بعد انفصالها عن الاتحاد السوفياتي، قبلت بأن تحتفظ البحرية الروسية بقواعدها في شبه جزيرة القرم، ولكن بعد إطاحة ثورة "قوة الشعب" بفيكتور يانوكوفيتش، الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا، كان لا بد على الأرجح من أن يظن بوتين أن وضع هذه القواعد لن يبقى على حاله، هذا إن لم يصبح مهدداً.

في هذه الحالة، تستطيع الحكومة الجديدة في كييف أن تقدّم ضمانات رسمية لروسيا بشأن قواعدها في سيفاستوبول، ولكن ربما قرر بوتين على نطاق أوسع أن السماح لأوكرانيا بالخروج من مدار موسكو أمر غير مقبول، وهكذا لا يكون تأمين منفذ للسفن الروسية إلى المياه الدافئة هدف السيطرة على القرم الوحيد. فتشير هذه الخطوة إلى تهديد بالمضي قدماً في الغزو، ما لم تتجاوب الحكومة الجديدة مع جارتها القوية.

لا شك أن هذا مجحف بالنسبة إلى أوكرانيا. ولكن لا أظن أن الأوكرانيين سيجنون أي فائدة من الادعاء أن ثمة وسيلة لإرغام بوتين على التخلي عن القرم، إذا أراد الاحتفاظ بها.

ينشأ هنا سؤال مهم: هل من طريقة لتبديل ميزان تقييم بوتين للتكلفة والفوائد؟ من المؤكد أن الزعيم الروسي لا يخشى مجلس الأمن في الأمم المتحدة لأن روسيا تستطيع عرقلة أي اقتراح فيه. فضلاً عن ذلك، قد يشكّل طرد روسيا من مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى ضربة لمكانة موسكو، إلا أن هذه الخطوة لن تقضّ على الأرجح مضجع بوتين.

بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر التلويح بالعقوبات الاقتصادية أسهل من تطبيقها، فيعتمد الاتحاد الأوروبي على روسيا في الجزء الأكبر من غازه الطبيعي، علماً أن هذا الواقع يمنح بوتين نفوذاً كبيراً، كذلك لا تبدو أوروبا متحمسة البتة للعودة إلى الحرب الباردة. ويدرك بوتين هذا جيداً.

إذا كان بوتين منفصلاً تماماً عن الواقع، كما توقعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في محادثتها مع الرئيس أوباما، حسبما أشارت بعض التقارير، يكون الوضع مفتوحاً على كل الاحتمالات، ولكن إذا كان بوتين يتصرف بذكاء، فسيقدم حلاً: أن تحظى روسيا بسيطرة مطلقة أو مشتركة على القرم. تدرك أوكرانيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة الأخرى أن موسكو تراقبها، وأن عليها كلها اللجوء إلى التسوية.

من المحزن بالنسبة إلى أوكرانيا أن تكون هذه صفقة قد يقبل بها العالم، لكن هذا هو الواقع.

* يوجين روبنسون | Eugene Robinson