حين تبدأ حرب كهذه التي تنذر بالوقوع يتوقف كل شيء؛ الشعر، الحب، الأدب. تتوقف الحياة وتسقط أحلام الصغار في مستقبل محتمل. تفتك الحرب بكراريس المدرسة وتحرق ضفائر الصغيرات الملونة، حين تندلع حرب كهذه لا يستطيع أحد أن يتكهن بمدى ضجيج الدماء ولا ضفة نهر هذا الدم.

Ad

إنها ليست حربا بين خصمين مستعدين للمصالحة لأن الأزمة التي مرا بها وليدة لحظتها، بل هي  حرب تاريخية قد تؤدي الى انقسامات تشرذم هذا الوطن، الى قطع لا تضمه وحدة بأي شكل من الأشكال. هذا اذا لم يتحول الى قبائل بدائية تعيش على النهب والغزو. وهي أيضا حرب يمكنها أن تتوالد بنسخ مقيتة في أرجاء الوطن الذي فشل في التوحد الشكلي وتباين في الخلافات والصراعات حتى تمزق أو كاد.

عام 1990، في الثاني من أغسطس تحديدا، بدأت النكسة الكبرى للأمة العربية واستطاع رجل طاغية أصابته حمى العظمة، وضج به الشعر حتى أسمنه المديح ليقدم نفسه على مذبح البؤس. كان رجلا ظلمه الشعر فصوره المنقذ والرئيس الملهم والقائد الضرورة لينجح في اغراق هذه الأمة وليته قرأ الشعر فعلا. فما كان يخرج من حرب الى أن يعود الى أخرى. كان يريد انتصارا، أي انتصار، وهو يقود جيشا اقترب من المليون ليهاجم جارته التي لم يصل عدد سكانها الى هذا الرقم.

كنت في الرياض في ضيافة صديق عرّفني على المرحوم عبدالله نور الذي طلب منه أبناء الكويليت أن أرافقه في زيارة لهم، ولم أكن قد التقيت بأي منهم من قبل. ضمت الجلسة رجلا يمنيا يدعى عبدالله بامحرز، كان يرى أننا في الكويت أخطأنا حين لم نستمع لطلبات صدام حسين وننفذ ما يريده وأننا أخطأنا بأن لم نتصد له حتى لو هلكنا جميعا. كان صعبا يومها أن تقنع شخصا لا يتفق مع حقك في الحياة بكرامة بموقفك. استمر بامحرز يستغل هدوئي وغربتي ليفرغ كل حقده على الكويت واكتفيت بأن أبتسم ولا أرد.

عبدالله نور كان صامتا طوال النقاش وحين رأى أنني توقفت عن الرد على الرجل نهض واقفا ليلقي بصوته الجميل معلقة زهير:

وَمَا الـحَرْبُ إِلاَّ مَـا عَلِمْتمْ وَذُقْتُمُ

وَمَا  هُـوَ عَنْهَا بِـالحَدِيثِ المُرَجَّمِ

مَتَـى تَـبْعَثُوهَا تَـبْعَثُوهَا  ذَمِـيمَةً

وَتَضْـرَ إِذَا ضَـرَّيْتُمُوهَا  فَـتَضْرَمِ

فَـتَعْرُككُمُ  عَرْكَ الـرَّحَى بِـثِفَالِهَا

وَتَلْـقَحْ  كِشَافَاً  ثُمَّ  تُنْـتَجْ  فَـتُتْئِمِ

فَتُنْـتِجْ  لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْـأَمَ كُـلُّهُمْ

كَأَحْمَرِ عَـادٍ  ثُمَّ  تُـرْضِعْ  فَـتَفْطِمِ

فَـتُغْلِلْ  لَكُمْ  مَا  لاَ  تُـغِلُّ  لأَهْلِهَا

قُرَىً  بِـالْعِرَاقِ  مِنْ  قَـفِيزٍ وَدِرْهَمِ

الى أن أنتهى الى البيت الأخير:

سَألْنَـا فَأَعْطَيْتُـمْ وَعُدنا فَعُدْتُـمُ

وَمَنْ أَكْـثَرَ التّسْآلَ يَوْماً سَيُحْـرَمِ

أنهى عبدالله نور القاء القصيدة ولم يتكلم بعدها بامحرز.

كل الشعر الذي نفخ القائد الضرورة كان بالامكان الاستغناء عنه بقصيدة واحدة كانت تكفيه شرور الحرب وتكفي الأجيال التى أنتجتها هذه الحرب شرور ارث الحرب. وكل هذه الصراعات الدموية المريرة القادمة ستجعل حرب السيد الرئيس نزهة مقارنة بما سيأتي.