هل غابت الشريعة عن دنيا المسلمين؟!

نشر في 28-04-2014
آخر تحديث 28-04-2014 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري المرتكز الأساسي لكل دعوات الجماعات والحركات والمدارس الإسلامية في انتقادها للأوضاع في المجتمعات الإسلامية عبر المظاهرات السلمية أو إصدار مجلات وصحف وقنوات فضائية وإلكترونية ومنابر دينية، وكذلك ما تقوم به كل تنظيمات العنف التي تحارب الدولة وصولاً إلى السلطة، كل هذه الفعاليات: المعتدلة والعنيفة، الحركية والساكنة، السنية والشيعية، العربية وغير العربية، تقوم على مرتكز محوري واحد لا غير، ثابت لا يتغير عبر 8 عقود أو أكثر، هو: أن "مجتمعاتنا لا تحكم بالشريعة".

 غابت الشريعة عن دنيا المسلمين بعد سقوط الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك 1924م لتحكم القوانين الوضعية دنيا المسلمين إلى يومنا هذا، كل أدبيات وطروحات وخطابات هذه الجماعات، تؤكد هذه المقولة الأساسية: فكرياً وتربوياً وإعلامياً وسياسياً ونضالياً وشعاراتياً، هذا المرتكز الصلب "مجتمعاتنا لا تحكم بالإسلام" هو الحجة الأساسية التي تروجها كل التيارات الإسلامية "المعتدلة" لإقناع الجماهير بايصال ناشطيها عبر الصندوق الانتخابي إلى السلطة لكي يطبقوا شرع الله تعالى الغائب، وهو -أيضاً- الذريعة الأساسية لكل جماعات العنف في حملها السلاح ضد الدول القائمة؛ لأنها لا تطبق الشريعة ولا تفرضها فرضاً على المجتمع والدولة ولو كرهاً.

 طبقاً لـ"أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" دعونا نناقش هذا المرتكز المحوري لطروح هذه الجماعات، بهدف تحليله وتفكيكه، فهل –حقاً– غاب شرع الله تعالى عن دنيا المسلمين، منذ سقوط الخلافة؟! إذا احتكمنا إلى الواقع المشاهد والممارس، فإننا نجد: مساجد العالم الإسلامي عامرة بروادها من المصلين العابدين 5 أوقات على امتداد الساحة الإسلامية، ومكة المكرمة بيت الله تعالى لا ينقطع عنها أبداً، ليلاً ونهاراً وعلى مدار العام، جموع الطائفين الساعين، أما الصيام فحرص المسلمين عليه صغاراً وكباراً لا يحتاج إلى دليل، والزكاة فريضة مطبقة ولله الحمد والمسلمون عامة يؤدونها غير الصدقات والمساعدات، والمروءات قائمة والتكافل الاجتماعي أيضاً قائم في المجتمعات الإسلامية.

 شرع الله تعالى لم يغب عن دنيا المسلمين يوماً منذ أن أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل 14 قرناً، يحيا المسلمون بالإسلام: ديناً وعقيدة وتشريعاً ومعاملة وشعائر وعبادات وأسلوب حياة، ومن قبل ظهور الجماعات الإسلامية بقرون طويلة ومن بعدها، وافتراض أن هذه الجماعات ستطبق الشريعة إذا وصلت إلى السلطة، معناه: أن الشريعة كانت غائبة وأن هذه الجماعات هي التي ستعيدها، وهذا قول غير صحيح، فتاريخياً يكذبه الواقع الممارس، ليس فقط واقع مجتمعاتنا الإسلامية بل أيضاً على مستوى الجاليات الإسلامية في الغرب، الحريصة على التمسك بتعاليم دينها.

 قد تركز هذه الجماعات على "الجانب العقابي" في التشريع، أي إقامة الحدود، وترى غيابها، وهذا هو تصور معظم المطالبين بتطبيق الشريعة من المنظرين والدعاة والخطباء والجماعات الدينية على مختلف أطيافها طبقاً لما بينته استطلاعات معاهد الأبحاث، التي وضحت بأن الأغلبية الساحقة أيدت تطبيق الشريعة في مجتمعاتنا (99% في أفغانستان) وهذا تصور مضلل.

 إذ إن الحدود طبقت في دول إسلامية عديدة وإن كانت بدرجات مختلفة طبقاً لتوافر الشروط الشرعية لتطبيق الحدود، لأن الحدود تدرأ بالشبهات، على أن الجانب العقابي المتمثل بالحدود لم يكن مطبقاً بشكل كامل حتى في ظل الخلافات الإسلامية الممتدة 14 قرناً، بدءاً من الدولة الأموية إلى يومنا، باستثناء الخلافة الراشدة، ولم يقل أحد من الفقهاء القدامى إن الشريعة غير مطبقة في تلك المجتمعات أو إنها ليست إسلامية كما تقول الحركات الإسلامية المعاصرة.

 ثم إن هؤلاء ينطلقون في تصور ضيق لمفهوم الشريعة، إذ يحصرونها في حدود تطبق ومحرمات تمنع، وهي لا تشكل إلا أقل نسبة (10%) في التشريع الإسلامي الرحب الذي يشمل: العقائد والعبادات والمعادلات والأخلاق والقواعد العامة للسياسة والاقتصاد والاجتماع والأسرة والمبادئ العليا للشريعة في المساواة والعدالة والحرية والشورى وحقوق الإنسان وكرامته، وعلى افتراض أن مجتمعاتنا لا تطبق الشريعة بالمفهوم الضيق الحدود، فهل هذا مبرر أو مسوغ للقول بإطلاق أن الشريعة غائبة عن مجتمعاتنا؟!

وقد يتخذ بعضهم مما يسمونه، تفشي "المنكرات والمعاصي" كالخمور والملاهي وتبرج النساء مسوغاً لاتهام مجتمعاتنا بعدم تطبيق الشريعة، لكن ما يشكون منه كان موجوداً في مجتمعاتنا عبر التاريخ الإسلامي باستمرار، حتى في قمة ازدهار الحضارة الإسلامية، فذلك طبيعة الإنسان وطبيعة المجتمعات منذ أن خلق الله هذا الإنسان وأعطاه حرية الاختيار، بل كان القرآن ينزل والفساق يتعرضون لبعض النساء في المدينة في عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، فجاء الأمر القرآني للنساء بالاحتشام حماية لهن من المضايقات.

 إن مجتمعاتنا الإسلامية اليوم، كما كانت في الماضي، قبل ظهور الجماعات الإسلامية، لم تغب الشريعة الإسلامية السمحة عن حياة المسلمين في كل مجالاتها، بداية من قوانين الأسرة مروراً بالمعاملات وانتهاءً بالحدود التي لم تعرف طريقها للتنفيذ كاملة، عبر التاريخ، نزولاً على المنهج الإسلامي نفسه الذي منع تطبيق الحد في غيبة شروطه الشرعية، ونزولاً على تعاليم الإسلام بدرء الحدود بالشبهات.

 وأما التشكيك في التشريعات المعاصرة بحجة أنها ليست من الشريعة، فيكفي في ردها ما ذكره المفكر الإسلامي الكبير والفقيه الدستوري المعروف، د. أحمد كمال أبوالمجد "القوانين الفرنسية التي استمدت منها التشريعات العربية، مأخوذة في معظمها من الفقه المالكي" يؤكده فضيلة د. خالد المذكور، رئيس لجنة استكمال الشريعة بالكويت، بقوله "نحن درسناها في اللجنة واكتشفنا أن القوانين الفرنسية، معظمها مأخوذ من الفقه الإسلامي"، ويضيف "لم نعدل من القانون المدني الكويتي الذي يضم 1080 مادة، سوى (40) مادة، والبقية لا تتعارض مع الشريعة" ثم يقرر، بوعي وإدراك، أن أكثر من 95% من أحكام الشريعة اجتهاد بشري متروك لمصالح الناس والكليات الخمس".

وأخيراً: لا أجد أجمل مما قاله بن كيران، رئيس الحكومة المغربية والأمين العام لحزب العدالة والتنمية المغربي، ذي المرجعية الإسلامية: الإسلاميون لا يحملون تفويضاً بفرض الأسلمة على المجتمع والدولة، وليس ذلك من مهمتهم، مجتمعاتنا ليست بحاجة إلى الأسلمة، لأنها مجتمعات مسلمة بطبيعتها: تعاملاً وعبادة وشعائر وتشريعات، والإسلاميون لن يضيفوا شيئاً إلى إسلامها وإيمانها إلا بقدر كونهم قدوات حقيقية في سلوكياتهم وتصرفاتهم.

 * كاتب قطري

back to top