المؤكد أن الأكثر وجعاً وإيلاماً من حصار عامين أن بعض وسائل الإعلام، التي تعتبر صديقة للثورة السورية، «وعدو عاقل خير من صديق جاهل»، لم تجد ما تصف به انسحاب المقاتلين الشجعان، الذين انسحبوا من حمص القديمة بعد صمود استمر أكثر من سبعمائة يوم في وجه جيش من المفترض أن مهمته تحرير الجولان واستعادة فلسطين، إلا إطلاق «التَّرْيقات» السخيفة، والقول بسماجة ما بعدها سماجة: «لقد انسحب الثوار وسقطت عاصمة الثورة»... و«عاصمة الثورة استعادها جيش النظام وغادرها ثوارها».
ولعل هؤلاء لا يعلمون، أو أنهم يعلمون لكنهم يحرِّفون الكلم عن مواضعه، إما لسذاجة وجهل أو لولاء لـ «بشار الأسد» وتحالفه الطائفي الدفين في قلوبهم، ويسدلون عليه ستائر «التقية»، أن هذا الانسحاب كان انتصاراً عظيماً، وأن الذين انسحبوا، وعددهم يزيد على الألف والأربعمائة، انسحبوا بأسلحتهم ورؤوسهم مرفوعة، وأنهم بعد قتال سبعمائة يوم، وبعدما تحولت حمص القديمة إلى كومة من الحجارة وتلال من الأتربة انتقلوا إلى ساحات مواجهة أخرى غدت لها الأولوية.كان الجيش، الذي ترك الجولان وتحول إلى مجرد فصيل من فصائل «الميليشيات» الطائفية، يحاصر المدن كما تحاصرها ميليشيات حزب الله والشراذم التي جرى تصديرها من العراق بأوامر إيرانية... كان هذا الجيش يسعى وعلى مدى نحو عامين من حصاره لـ»حمص» القديمة إلى استسلام هؤلاء ليعود بهم إلى دمشق وأيديهم مرفوعة فوق رؤوسهم، لينتشل معنويات بشار الأسد المنهارة ويبدأ «سحِّيجة» هذا النظام بالزغاريد والحداء والتبشير بأن رئيسهم بعد هذا النصر المؤزر سيفوز في «العرس الديمقراطي»! فوزاً عظيماً ولولاية ثالثة تقوده إلى سلسلة من الولايات المتلاحقة... وإلى أن يسلِّم الراية إلى حافظ الصغير الذي يتم إعداده ليكون حلقة التواصل في سلسلة حكم هذه العائلة «الإمبراطورية»!لقد أصبح وجود هؤلاء المقاتلين الألف والأربعمائة في حمص المهدمة، التي حولتها قذائف مدفعية «الجيش العقائدي» وصواريخه و»براميله المتفجرة» إلى كومة من الحجارة، عبئاً على أنفسهم وعبئاً على الثورة، لذلك فقد كان قرارهم وقرار قيادة ثورتهم أن يخرجوا من الحصار مرفوعي الرؤوس وبأسلحتهم ومعنوياتهم وبإصرارهم على مواصلة القتال على جبهات أخرى أكثر حيوية وأكثر أهمية من حمص القديمة التي صمدت كل هذا الصمود البطولي، والتي لم يعد فيها من الناحية العسكرية وعلى الصعيد الاستراتيجي ما يستحق استنزاف هذا العدد الكبير من الشبان الذين من الأفضل أن ينتقلوا إلى جبهات مؤثرة ساخنة ومشتعلة.كان النظام يريد لهؤلاء الاستسلام، فالهدف ليس حمص القديمة، التي تحولت إلى كومة من الحجارة والأتربة بعد قصفٍ أهوج تواصل نحو عامين، بل إذلالهم لاقتلاع الانحياز للثورة من قلوب السوريين... لكن ما حصل هو أن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن هذا النظام، وأن مستلزمات الصفقة التي أبرمتها الثورة مع الإيرانيين ومع الروس بإشراف الأمم المتحدة لضمان الإفراج عن أسراهم قد قلبت المعادلة وحققت هذا الانتصار الرائع، حيث خرج المحاصرون برؤوسٍ مرفوعة وأسلحتهم في أيديهم، واتجهوا فوراً إلى جبهات جديدة مشتعلة، بدل البقاء تحت الحصار في جبهة «ميتة» لم يعد القتال فيها إلا من قبيل إطالة أمد الدفاع عن النفس.لقد كانت عملية بطولية بالفعل أن يأسر الثوار المقاتلون على جبهة اللاذقية أكثر من عشرين من حراس الثورة الإيرانية، وضابطاً روسياً كبيراً وبعض أفراد ميليشيات حزب الله، وهنا فإن ما يدل على أهمية ما جرى أن الروس والإيرانيين هم الذين عقدوا هذه الصفقة الرابحة العظيمة مع الثوار السوريين، وبالطبع بمشاركة الأمم المتحدة وإشرافها، والمؤكد أن نظام بشار الأسد لم يكن له أي دورٍ في هذا الذي جرى... وهذا يدل على أن سورية أصبحت دولة محتلة، وأن اللاعبين الرئيسيين فيها، سياسياً وعسكرياً، هما روسيا وإيران... وهذا يشير إلى من سيكون صاحب القرار الفعلي في حال الاتفاق على تسوية سياسية.
أخر كلام
مجرد كومة حجارة!
09-05-2014