كثيراً ما يعقد أهل الاقتصاد المقارنات بين اقتصادات متماثلة لعزل تأثير فارق معين، ويوفر هذا النهج صورة مقنعة للدور الذي تلعبه عوامل بعينها في دفع أو تقويض نجاح أي اقتصاد.

Ad

على سبيل المثال، ورغم الجذور التاريخية والثقافية المشتركة بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية فإن المجتمع في كل من البلدين يختلف عن الآخر تمام الاختلاف. فمستويات المعيشة في كوريا الشمالية متدنية إلى حد كبير بسبب حكمها الشيوعي، واعتماد اقتصادها على التخطيط المركزي، والذي يتعارض بشكل حاد مع الحكم الديمقراطي والاقتصاد الرأسمالي المختلط في كوريا الجنوبية.

وتعد تجربة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية مثالاً آخر كاشفاً، فعندما سقط سور برلين بعد جيلين فقط تقريباً من نهاية الحرب، كانت مستويات المعيشة في ألمانيا الشرقية الشيوعية لا تتجاوز 20% من المستوى الذي تحقق في ألمانيا الغربية الرأسمالية.

وبوسعنا أن نستخدم نفس النهج لفهم الأسباب وراء ازدهار تشيلي، في حين تتقدم جارتها الأرجنتين بخطى متعثرة.

ولنتناول أوجه التشابه أولاً. تقوم التوجهات في كلا البلدين على محور شمالي جنوبي، ويتميز كل منهما بتضاريس متنوعة، الخطوط الساحلية الطويلة والزراعة الوفيرة وتربية المواشي ومزارع العنب. وكل منهما نال استقلاله عن إسبانيا قبل قرنين من الزمان. وفي كل من البلدين تتألف التركيبة السكانية إلى حد كبير من أناس منحدرين من أصول أوروبية. وكل من البلدين لديه تاريخ من الحكم العسكري. وأخيراً شهد كل منهما اضطرابات سياسية، بما في ذلك احتجاجات شعبية ضخمة- وعنيفة أحياناً.

وعلاوة على ذلك، فإن النظام في تشيلي والأرجنتين ديمقراطي، وتناوب على حكمهما اليمين واليسار. وفي تشيلي، يستطيع الرئيس أن يحكم لفترات متعددة، لكن ليست متعاقبة. وبالتالي فإن الرئيس سباستيان بينيرا- الوسطي الذي يقود ائتلافاً من يمين الوسط- لا يستطيع أن يكون مرشحاً لإعادة انتخابه في العام المقبل، لكن بوسعه أن يخوض الانتخابات في عام 2018.

ورغم أن الائتلاف الحاكم في تشيلي- خصوصاً وزير المالية فيليبي لارين- بذل الكثير من الجهد لتعزيز أداء الاقتصاد الكلي في البلاد، فإنه ناضل أيضاً بحثاً عن مرشح رئاسي قوي؛ الفضيحة التي أعقبت معركة داخلية شرسة على الخلافة، مع إرغام تحالف يمين الوسط على خوض الانتخابات بالمرشح الذي يُعَد ثالث أفضل خيار. وقد فازت زعيمة تحالف يسار الوسط ورئيسة الحزب الاشتراكي ميشيل باشيليه (التي سبقت بينيرا في منصب الرئاسة) بالجولة الأولى بسهولة، ومن المتوقع أن تُنتَخَب في الشهر المقبل.

من ناحية أخرى، ورغم توسيع صلاحيات منصبها، فإن رئيسة الأرجنتين كريستينا فرنانديز دي كيرشنر- التي أتت خلفاً لزوجها الراحل نستور كيرشنر في عام 2007- يحظر الدستور ترشحها لولاية ثالثة متعاقبة. ويشير فشلها في الفوز بأغلبية الثلثين البرلمانية اللازمة لتعديل الدستور، فضلاً عن نجاح مرشحي المعارضة في الانتخابات النصفية الأخيرة، إلى أن الأرجنتين ربما تكون على وشك التحول نحو اليمين في عام 2015.

والآن إلى الاختلافات. إن السياسات الاقتصادية في البلدين تختلف في نواح بالغة الأهمية. فقد تبعت تشيلي عادة سياسات معقولة اقتصادياً- ومبدعة في بعض الأحيان. على سبيل المثال، لابد من إنفاق العائدات من النحاس، التي تشكل 13% من الميزانية، على أساس سعر التخطيط الطويل الأجل المحقق بشكل مستقل، مع تراكم الإيرادات الفائضة في صندوق يستخدم عندما تسجل أسعار النحاس انخفاضاً حاداً.

وعلاوة على ذلك، حافظ بنك تشيلي المركزي على معدل التضخم منخفضاً- فلا يتجاوز الآن 2% تقريباً- وعلى الميزانية متوازنة تقريباً. ويؤكد نظام التقاعد في البلاد على الادخار الخاص والمسؤولية الفردية. وقد ساعدت اتفاقية ثنائية للتجارة الحرة على تسهيل حدوث طفرة في التجارة مع الولايات المتحدة، كما شاركت تشيلي بنشاط وقوة في مفاوضات اتفاقية التجارة الشراكة عبر المحيط الهادئ.

من المؤكد أن المقترحات التي قدمتها باشيليه بزيادة الضرائب على الشركات، وزيادة الإنفاق على الرعاية الاجتماعية، وتعظيم سيطرة الحكومة على معاشات التقاعد، وإعادة النظر في مشاركة تشيلي في الشراكة عبر المحيط الهادئ، كلها تهدد بالتراجع عن الكثير من هذا التقدم. لكن إذا ارتدّت، بمجرد وصولها إلى المنصب، إلى السياسة الأكثر وسطية التي انتهجتها في ولايتها السابقة، فربما تتمكن تشيلي من الحفاظ على زخمها الاقتصادي.

أما الأرجنتين فهي تنخرط على النقيض من ذلك في سلسلة من الانقلابات الاقتصادية التي تجلبها على نفسها. ومع سكانها الذين يبلغ عددهم ضعف عدد سكان تشيلي، فضلاً عن مستودعات الطاقة المكتشفة حديثاً والعاصمة النابضة بالحياة، فإن الأرجنتين تتمتع بإمكانات اقتصادية هائلة. والواقع أنها قبل قرن من الزمان كانت واحدة من أغنى بلدان العالم، وكانت مستويات المعيشة لديها لا تقل عن نظيراتها في الولايات المتحدة. لكن اليوم، يبلغ نصيب الفرد في الدخل في الأرجنتين 40% فقط من نصيب الفرد في الولايات المتحدة، وهو أدنى كثيراً من نصيب الفرد في تشيلي.

والآن يبلغ الفارق بين سعر صرف الدولار الرسمي وسعره في السوق السوداء في الأرجنتين نحو 60%. ومن غير المستغرب أن يعطيك كل بائع تجزئة تقريباً في بوينس آيرس سعر الدولار وسعر البيزو. ومن الممكن أن نفسر هذا جزئياً بارتفاع معدلات التضخم، والتي تبلغ وفقاً للمحللين المستقلين نحو 25%- وهذا أكثر من ضعف التقديرات الرسمية التي لا تتجاوز 10%. ومنذ غيرت كيرشنر كبير المسؤولين عن إحصاءات التضخم في المعهد الوطني للإحصاء في عام 2007، كانت أرقام التضخم الرسمية في الأرجنتين أقل بشكل واضح من التقديرات الأخرى. (وقد وجهت انتقادات إلى أرقام التضخم في تشيلي أيضاً، ولو بدرجة أقل كثيراً، والواقع أن معهد الإحصاء التابع للدولة في تشيلي أكثر استقلالاً عن الحكومة من نظيره في الأرجنتين بدرجة كبيرة).

وتستأسد حكومة فرنانديز على الشركات وتؤممها، كما تمارس الضغوط على البنك المركزي لحمله على استخدام الاحتياطيات الدولية لسداد الديون. وجاء أداء اتفاق التجارة الرئيسي الذي وقعت عليه الأرجنتين، "ميركوسور"، أقل كثيراً من إمكاناته المحتملة. وعلى مدى السنوات الخمس المقبلة، يتوقع صندوق النقد الدولي أن تشهد الأرجنتين نمواً أضعف، ومعدلات تضخم أعلى، ومستويات بطالة أعلى من نظيراتها في تشيلي.

وما يدعو إلى التفاؤل أن الناخبين ينقلبون الآن بشكل متزايد على حكومة فرنانديز. ففي أغسطس، اجتذب مرشحون من المعارضة مثل سيرجيو ماسا وماوريسيو ماكري دعماً انتخابياً كبيراً ببرامجهم الانتخابية الداعمة للأعمال التجارية والمناهضة للتضخم، الأمر الذي يجعل منهم مرشحين رئاسيين محتملين في عام 2015. وحتى إذا تسبب فرنانديز في إلحاق أضرار بالغة حتى ذلك الحين فسيكون لزاماً على خلفها أن يعمل على استعادة مصداقية الأرجنتين في الداخل والخارج، من أجل منع هروب رأس المال.

لكن هل يستطيع أي رئيس أرجنتيني أن يشجع تعزيز عملية تقليص التضخم والحفاظ على دعم الناخبين خلال فترة من تباطؤ النمو، أو حتى الركود؟ لقد حدث هذا في الولايات المتحدة بالفعل. فقد قدم الرئيس الأميركي رونالد ريغان الدعم لخطة رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي) بول فولكر لخفض معدل التضخم، رغم الركود العميق، والارتفاع الحاد المؤقت في مستويات البطالة، وخسارة الانتخابات النصفية. وسرعان ما انتعش الاقتصاد وأعيد انتخاب ريغان. والواقع أن استقرار الأسعار ساعد في تمكين ربع قرن من النمو القوي وانخفاض معدلات البطالة، ولم يقاطع ذلك الا فترتين موجزتين من الركود المعتدل- أفضل أداء للاقتصاد الكلي في التاريخ الأميركي على الإطلاق.

ولا يملك المرء إلا أن يتمنى أن تتعلم الأرجنتين من جارتها في غربها- وأن تنظر إدارة باشيليه في تشيلي إذا عادت إلى السلطة عبر جبال الأنديز، فتدرك إلى أين قد تدفع مقترحاتها البلاد، وتغير المسار قبل فوات الأوان.

* مايكل ج. بوسكين | Michael J. Boskin ، أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة ستانفورد، وكبير زملاء "معهد هووفر"، وكان يشغل منصب رئيس مجلس مستشاري الرئيس جورج بوش الأب لشؤون الاقتصاد في الفترة 1989- 1993.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»