نحن نعرف أن المدرسة «التعبيرية» في الفن التشكيلي ظهرت في ألمانيا، مطلعَ القرن العشرين. وكانت تعتمدُ تقديمَ العالم المرئي عَبرَ منظور ذاتيّ خالص. ولذلك لا تلتفت إلى معايير المنظور الموضوعي في الانسجام، والاتساقِ، والجمال الفيزيائي. التشويهُ وتحطيمُ الهارموني كانا وسيلتها إلى التعبير عن المعنى أو العاطفة الكامنين. ولذلك كانت الحافزَ وراء إعادة النظر في مسألة «الجمال» ومعاييره في الفن.

Ad

المعرضُ الجديد في متحف «الغاليري الوطني»، تحت عنوان «الجمال الغريب» The Strange Beauty، والذي ينصرفُ إلى مرحلة منسيةٍ نسبياً من الفن الألماني تعود إلى عصر النهضة، يؤكد بصورة غير مباشرة على أن عناصرَ «التعبيرية» هذه تعود إلى تلك المرحلة. أو على أن جذورَ «التعبيرية» هي ألمانية في الجوهر. مع أننا اعتدنا على نسبة هذه الجذور إلى الظرف التاريخي الذي أحاط بمطلع القرن العشرين.

هذا ما ورد على خاطري، لأن المعرض لم يُشر، أو يؤكد ذلك. «التعبيرية» لم تقتصر على الفن، بل تجاوزته إلى الشعر والأدب والموسيقى. ولقد شغلتني فترةً من حياتي، وأنا أكتب، وأنا أرسم، وأنا أتقرب من الموسيقى التعبيرية التي تفجّرت على يد «شوينبيرغ» ومدرسة «فيينا الثانية». وكأن هناك دافعاً داخلياً يحثني على ضرورة اكتشاف الهُوية الفنية لشخصي، كإنسان بالدرجة الأولى. هناك دائماً انحناء على الذات، وتأملٌ لرحيلها الداخلي. تأملُ المشاعر المتعارضة الغامضة. تأمل الطبيعة الشائكة للأفكار والمشاعر، التي لا تستقيم مع عناصر القياس السينتمترية المعتمدة. في التعبيرِ عنها يحتاج المرءُ إلى عنصر التشويه، في تكسير الخطوط، وإرباك التوازن، وتحريف الطبيعة. إلى التشويه، بتعبير أكثر جرأة.

حين كان عصرُ النهضة إيطالياً بامتياز، هيمنت معاييرُه الجمالية بالضرورة على عالم الفن. كان رفائيل، ومايكل أنجلو ودافنشي هدفَ التطلّع الفني في عموم أوربا آنذاك. والسيرُ خلاف ذلك يُشكّل انحرافاً غير مرغوب فيه. علينا ألا نغفل عن أن ألمانيا لم تكن موحدةً آنذاك، كانوا على شيء من هذا الانشغال غير المرغوب. ومعظمُ الأعمال التي خرجت من القرنين الخامس عشر والسادس عشر تعرضت لتساؤلات «علم الجمال»، بالرغم من أن فنانين من تلك المرحلة مثل «دورر»، «هولبين» و»كراناتش» كانوا اسماء لامعة. هذا المعرض يقدم نموذجاً لهذا، وكيف تعامل «الغاليري الوطني» نفسُه بارتياب وعدم رضا مع هذا النتاج في سنوات تأسيسه عام 1824. لقد رفض أن يضم أعمالاً عديدة من هذا النتاج بفعل قباحتها، وعدم انسجامها مع معايير الجمال المألوفة. ولقد فجّر هذا الموقفُ اتجاهين متعارضين من ردود الأفعال.

من عناصر التشويه التي شكّلت قبحاً عند بعضهم: الأجسامُ الضامرة، الأطرافُ غير السوية، الأوجهُ المجعدة، الهيئات الباردة البشرة وسط طبيعة أشد برودة، نشافُ العاطفة، مع نزعة دقيقة في التفصيل الذي يعتمد التحريفَ واختلالَ التقنية. ولأن المعرضَ ذو توجّه تثقيفي، شأن أكثر معارض «الغاليري الوطني»، فقد خُصصت القاعة الأولى للأعمال التي تنسجم  ومعايير عصر النهضة الإيطالي، وقد تصدّرت بلوحة رفائيل، من أجل استثارة الاحساس بالمفارقة. لتليها لوحات النزعة التعبيرية الألمانية الأكثر تأثيراً: مشاهد صلب المسيح، ولوحات البورتريت.

في لوحة الفنان «هولبين» الشهيرة «السفراء»، رغم رشاقتها الواقعية، فإنها تُخفي أكثر من إشارة غرائبية. خاصةً مشهد الجمجمة أسفل اللوحة، التي لا يمكن أن تلفت نظر المشاهد لشدة التحريف فيها، إلا إذا نُبّه للنظر إليها على مبعدة من يمين اللوحة. وكذلك مشهد المسيح المصلوب الموارب من طرف الستارة. أما لوحة «بورتريت امرأة من عائلة هوفر»، وهي لفنان مجهول، فيُدهشك مشهدُ الذبابة السوداء الكريه وهي تستقر على الخمار الأبيض، الملتف بأناقةٍ بالغة حول رأس السيدة الموقّرة. ولعل الفنان «كراناتش» هو الأكثر إمعاناً في زعزعة عناصر التناسق.

النزعة التعبيرية في هذا «الجمال الغريب» لا تُفسد الذائقة، كما نتوهم، بل تمنح أكثر من رئة لأنفاس الدراما الداخلية. وهي التي يصلح عليها مُعتقد أرسطو الذي يرى أن الدراما سبيلٌ ناجح لتطهير النفس.