كيف ترى واقع العلاقة بين السنة والشيعة في العالم العربي في ظل الفتنة السياسية التي تشهدها الأمة؟
لا بد من أن نعي جميعاً أن الأمتين العربية والإسلامية ليستا في حاجة إلى مزيد من الخلافات، ويكفيهما حجم الخلافات السياسية التي تأججت فيهما بقوة في الفترة الأخيرة. وللأسف، فنحن نرى اليوم الخلافات السياسية سرعان ما تتحول إلى خلافات دينية ومذهبية. نرى شعوب المنطقة تنساق وراء الدعاية الطائفية حتى وصل الأمر إلى النفير العام لقتل المخالف، كما هي الحال في سورية حيث يقاتل «حزب الله» ولواء «أبي الفضل العباس» وغيرهما من جهة؛ ضد جبهة «النصرة» و{داعش» و{الجيش الحر»، وبدل الدعوة إلى الصلح والإصلاح نرى الإعلام وأغلب المشايخ يحرضون على القتل في تشويه وتحريف وإساءة بالغة للدين الإسلامي الحنيف. وللأسف، فقد كان صعود التيارات الإسلامية في بلدان الربيع العربي سبباً آخر لنشر الفتنة المذهبية في كل دول الربيع العربي.هل يعني هذا أن صعود نجم الإسلاميين في بعض بلدان الربيع العربي كان سبباً في اتساع هوة الفتنة بدلا من تضييقها؟هذا ما حدث للأسف، فتيارات الإسلام السياسي عندما صعدت إلى سدة الحكم صعد معها كثير من الجماعات المتشددة والمتطرفة التي لم تسع إلى الاستفادة من ثورات الربيع العربي لتعيد النظر في أفكارها المتطرفة، وبدلاً من ذلك صعَّدت من خطابها التكفيري، فكفروا الأقباط في البداية، كما حدث في مصر، ثم التفتوا إلى أخوانهم في الدين المتمثلين في الشيعة ليكفروهم، ليكفرهم الشيعة بالتالي، وبدلاً من التواصل ونبذ المذهبية وجدنا الطرفين يشيعان تلك الأفكار التي ساهمت في زيادة حدة الاحتقان بين الشيعة والسنة. ثمة من يروج على سبيل المثال أن الشيعة يسبون أمهات المؤمنين وصحابة رسول الله، ومن يقول إن للشيعة قرآناً آخر، رغم أن هذه كذبة سقطت منذ زمن بعيد، فالشيعة يستقدمون في بلادهم المقرئين المصريين لإحياء ليالي رمضان، والشيعة لهم تواجد في كل دول العالم، وفي القارات الخمس، ولم نر لهم قرآنا آخر، وهذه الفضائيات الشيعية تصدح بالقرآن. نعم ثمة روايات قليلة ضعيفة لا يقول بصحتها أحد ولا يعول عليها عاقل فلا داعي لإثارة هذه القضايا التي سقطت تاريخياً.كيف ترصد العلاقة بين ثورات الربيع وتصاعد التوتر المذهبي في عالمنا العربي؟ثورات الربيع العربي رفعت في البداية شعارات العدالة الاجتماعية، وفجأة تحولت الأبواق التي دعت إلى الحرية إلى أبواق تحض على كراهية الآخر وتحفز العيوب الكامنة فينا، ثم انتهت إلى إحياء الخلافات والنعرات المذهبية والتحريض الطائفي الشيعي- السني، بما يخدم مصالح الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يكشف أحد أهم أسباب تخلف الفكر السياسي الإسلامي، حيث أغلقت الثورات العربية الباب أمام حوار إسلامي- إسلامي أو إن شئت الدقة سني- شيعي.لماذا من وجهة نظرك اختفت مؤتمرات التقارب بين المذاهب خلال السنوات السابقة؟لأن ثمة من يعبث في الفكر الإسلامي ويستجيب له صانعو القرار للأسف، بصورة أو بأخرى، فالسياسة الغربية منذ قديم الأزل تقوم على الهيمنة، والأخيرة لن تحدث إلا من خلال تشتيت المسلمين وتقسيمهم ودولهم، ليشعر كل طرف بحاجته إلى دعم الغرب وتسليحه، ويكون ذلك هو المدخل للسيطرة والنفوذ، ويتحول العالم العربي من قلب العالم النابض إلى شرايينه التي تتعارك وتتصادم، ويتمثل ذلك الصراع في تأجيج المواجهة بين السنة والشيعة.هل هذا يعني أنك تؤمن بنظرية المؤامرة في قضية تأجيج الفتنة المذهبية؟بالطبع؛ وسوف أذكرك بحادث تاريخي، ففي الأربعينيات اضطر الاحتلال الفرنسي إلى الخروج من لبنان، ولكنه أصر قبل إعلان استقلال لبنان على وضع نظام المحاصصة بمعنى أن لكل طائفة حصة من الحكم. باختصار، زرع الفتنة داخل أوساط اللبنانيين. ألا يدلنا هذا على حجم المؤامرة التي يتعرض لها المسلمون كل يوم، وأخيراً عدد أحد كبار المثقفين اليهود في أميركا الفوائد التي يجنيها الغرب من الصراع «السني- الشيعي»، فدخول فرع واحد من الإسلام في حالة حرب مع فرع آخر لبضع سنوات أو عقود أفضل كثيراً بالنسبة إلى الغرب، لأن ذلك وسيلة مضمونة لإضعاف المسلمين.وثمة كثير من الكتاب الإسرائيليين أكدوا أن بقاء الكيان الصهيوني رهن بتفتيت المنطقة العربية سياسياً، وقرأت قبل أعوام ترجمة لمقال كاتب إسرائيلي يدعى عوديد بن نون، وهو باحث في الشأن المخابراتي والأمني في إسرائيل وأعد دراسة عنوانها «استراتيجية إسرائيل في التعايش»، قال فيها إن مستقبل إسرائيل يكمن في تحويل المنطقة العربية إلى مجموعة من الكيانات الصغيرة والدول القزمية التي تقوم على أسس عرقية وطائفية ودينية ومذهبية، وضرورة تغذية النزعات الانفصالية للأقليات في البلدان العربية، باعتبار أن ذلك سيضفي على الوجود الصهيوني في المنطقة شرعية سياسية وإقليمية ودينية باعتبار أن إسرائيل دولة يهودية، قامت على أساس ديني، ستكون جزءاً من منطقة مليئة بكيانات دينية ودويلات طائفية وقزمية ومذهبية.وما الحل من وجهة نظرك؟يكمن الحل في أن نعي جيداً، كما قلت سابقاً، أن الأمة الإسلامية لا تحتاج إلى مزيد من الشقاق والفرقة والعداوات والمعارك، ففيها ما يكفيها، وليس من العقل ولا من الحكمة ولا من المنطق أن يستعدي السنة الشيعة، وأن يستعدي الشيعة السنة، فلن يزيدنا هذا العداء إلا تمزقاً وهزيمة وإحباطاً وقلة وذلة، وما دام أن الله عز وجل نهانا عن أن نسب أعداءه لئلا تكون العواقب أكثر سوءاً فقال: «وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ» (الأنعام:108).فما المصلحة إذاً في أن يتراشق رموز السنة والشيعة أو غيرهما من مذاهب بالسباب والشتائم؟ ولماذا نوقد نار الفتنة في دائرة أهل الإسلام وأمتنا الإسلامية تتعرض لحملة عدوان من الصهاينة ومن أعداء الله في كل مكان، ولا بد من أن نعي جميعاً أنه لا يوجد خلاف فقهي كبير بين الشيعة والسنة، والمذهب الجعفري الشيعي كان يدرّس في الأزهر وأقرب المذاهب إليه هو المذهب المالكي الذي يختلف عنه اختلافات بسيطة ومن يتعبد إلى الله بالمذهب المالكي فإنه يتعبد بمذهب آل البيت.ونحن أيضاً في حاجة إلى منظومة قيم تحكم العلاقة بين أتباع المذاهب المختلفة وبين المختلفين حتى في العقيدة، خصوصاً في ظل انتشار دعاة الفتنة الذين يتطاولون على العلم الديني والشرعي ويناطحون العلماء الأجلاء من دون دراية بمقام العلماء. وللأسف، فإن تطاول السفهاء على العلماء تسبب في ظهور دعاة الفتنة الذين شوهوا الساحة وملأوها بعشرات الفتاوى التي تحض الناس على رفع السلاح في وجه بعضهم البعض، وتحض صراحة على الفتنة، وإلا بماذا نصف إفتاء بعضهم بمشروعية قتل المعارضين لعزل هذا الحاكم أو ذاك، ليأتي الموتورون من الطرف الآخر ويبيحوا استهداف المعارضين. وهكذا ظهر لدينا فريقان، لكل فريق مفتين من نوع خاص تجرأوا على الفتوى وعلى الدين، وأنا لا أعرف كيف يكون مسلماً بأي صورة من الصور من يدعو، وأحياناً يشارك قولاً أو فعلاً ودونما ذرّة من دين أو ضمير أو عقل، إلى قتل مسلم آخر أو إنسان آخر؛ أياً يكن مذهبه أو معتقده أو دينه أو لونه أو جنسه؟ أفلا يتقدّم هذا بآية واحدة تدعوه إلى الإجرام الذي يتورط فيه؟ أفلم يقرأ هذا، أو يسمع، قولة الإسلام الحنيف التي ضربت مثلاً إنسانياً حضارياً متقدماً: «أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً» (المائدة: 113)، لكل هذا فإن فتنة الحرب الأهلية لن تتوقف حتى يتوقف سيل الفتاوى التكفيرية في كل مكان سواء كانت سياسية أو طائفية أو مذهبية.هل يعني هذا أنك تطالب بقوانين تجرم الإساءة إلى المذاهب؟نعم؛ نحن في حاجة إلى مجموعة قوانين تحافظ على هيبة العلماء وعلى هيبة الفتوى ونحن أيضاً في حاجة إلى قانون حاسم يمنع التجرؤ على الفتوى لمواجهة أدعياء الإفتاء، فلا بد من وجود هذا القانون الذي يوقف من يفتي بغير علم ويتسبب في كل هذا الاحتقان الذي انتشر في العالم الإسلامي من السنغال حتى إندونيسيا. ولا بد على الناحية الأخرى أن نتكاتف جميعاً ونواجه من يخرجون على الأمة وعلى الدولة بالسلاح ونقول كلمة الحق فى وجوههم، ونتذكر جميعاً قول الله سبحانه وتعالى: «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين* إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين» (آل عمران: 139-140).وهكذا لا بد من أن نتكاتف في وجه كل شارد ونردع من يخرج على القانون وعلى الدولة، ولكنني أعود فأؤكد أن الفتن لن تختفي من عالمنا الإسلامي إلا عندما يدرك كل مسلم، أياً كان انتماؤه المذهبي، أن الفتنة الطائفية طاعون يجب مواجهته قبل أن يستشري في الجسد الإسلامي ويقضي على مكتسبات هذه الأمة. وما يحدث من دعاوى باطلة لصراعات طائفية وانقسام بين أبناء الوطن الواحد لا علاقة له بالأديان وترفضه جميع الشرائع السماوية التي تدعو إلى التعاون والتعايش وتنهي عن ترويع الآمنين وتحرم سفك الدماء، والاعتداء على حرمة النفس الإنسانية التي كرمها الله وحرم قتلها إلا بالحق.كيف رصد القرآن الفتن لغوياً وكيف حذر منها؟مفهوم الفتنة في القرآن واسع ومتعدد المعاني، ومن هذه المعاني التي تندرج تحت هذا المفهوم السعي في الأرض فساداً، لقوله تعالى: «ويسعون في الأرض فساداً» (المائدة:33)، وعمليات محاولة إيقاع الفتنة بين الناس وتخريب أمنهم وسلامهم ودفعهم إلى الصراع والعنف والاقتتال هو من قبيل السعي في الأرض فساداً. ونعرف أن القرآن الكريم قد جعل السعي في الأرض فساداً مرتبطاً بعمليات أو سلسلة من عمليات التخريب الشاملة التي تؤدي في النهاية إلى تدمير الجماعات وتحطيم الأوطان. ويقول تعالى: «واتقوا فتنة لا تصبين الذين ظلموا منكم خاصة» (الأنفال:25)، فالسعي في الأرض فساد والعمل على تخريب أمن المجتمعات إنما هو الفتنة بعينها التي جعل الله تعالى لها عقاباً شديداً في الدنيا وفي الآخرة.هل نحن في حاجة إلى ميثاق شرف نواجه به تلك الفتن؟أظن أننا في حاجة فعلاً إلى أن نضع أشبه بميثاق شرف في ما بيننا، يتألف من نقاط عدة أولها: أن تدرك النظم السياسية القائمة في بلدان المسلمين أنه من المستحيل أن تقوم نظم مستقرة ومقبولة من دون أن يجري فيها تداول السلطة بسهولة ويسر ومن دون تغييب لأي فصيل من فصائل الأمة مهما كان، بل تكون النظم ذات نسق مفتوح لاستيعاب أي قوة من القوى الناشئة أو القائمة. أما ثانية تلك النقاط فتتضمن تأسيس المؤسسات القادرة على التنشئة السياسية السليمة التي لا تسمح بخلط الأمور لدى فصائل الأمة وتوضح العلاقات بين فصائلها المختلفة وبينها وبين قياداتها بشكل دقيق لا يتجاوز فيه أحد حدوده ويتوافر توازن تحفظه مؤسسات عدة.أما النقطة الثالثة في ذلك الميثاق المقترح، فلا بد من أن تتضمن إقامة مؤسسات المجتمع المدني وتعزيزها وإحاطتها بالضمانات الكافية، لتؤدي أدوارها بشكل سليم ولتوجد الضمانات الكفيلة بعدم لجوء أي فصيل إلى العنف أو إلى العمل السري، مع تعديل برامج التربية والتعليم بشكل شامل ودقيق، يؤدي إلى تشكيل الإنسان المعتدل الذي يعرف ما له وما عليه وما لسواه وما عليهم، ويقبل الآخر أياً كان. وبين أيدينا تجارب كثيرة يمكن أن تفيدنا في هذا، والعمل على إعادة بناء فكرة وحدة الأمة ولتكون للمواطنين أهداف عليا من بينها وحدة الأمة وبناء مشروعها الحضاري الذي تتعلق الأمة به وتكافح لأجله، كي لا تنكفئ على ذاتها وتنفجر في دواخلها، فضلاً عن إيجاد أنواع من التكامل بين بلدان المسلمين، وبين البلدان العربية خصوصاً.في سطورولد الدكتور فيصل عبدالسلام الحفيان في مدينة حمص السورية عام 1959، وبعدما تلقى تعليمه الأولي في سورية، انتقل إلى مصر لاستكمال تعليمه حيث حصل على إجازة باللغة العربية من جامعة الأزهر 1978، ثم على دبلوم التخصُّص في الدراسات اللغوية بتقدير جيد جدّاً من كلية اللغة العربية في الجامعة ذاتها 1980، ثم الماجستير 1988، فالدكتوراه 1999.يتولى الحفيان راهناً إدارة معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية ومقره القاهرة، فضلاً عن نيابته لرئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة، وعضويته لجنة جائزة إحياء التراث المنبثقة عن إحدى لجان المجمع، وهو عضو مجلس إدارة مركز المخطوطات التابع لمكتبة «الإسكندرية» في مصر.وللحفيان كثير من المؤلفات البحثية المتعلقة بتحقيق المخطوطات ونشرها، من بينها: تحقيق كتاب «الكافي في الإفصاح عن الإيضاح»؛ لابن أبي الربيع السبتي الأندلسي، وألف كتاب «الفهارس المفصلة لمجلة معهد المخطوطات العربية» (1955- 2002)، بالاشتراك مع د. محمد فتحي عبدالهادي، وله عشرات الدراسات في المجلات والمؤتمرات العلمية. كذلك شارك في تنسيق وتحرير كثير من الكتب من بينها: «التجارب العربيَّة في فهرسة المخطوطات، فن فهرسة المخطوطات العربية، التراث العلمي العربي: مناهج تحقيقه وإشكاليات نشره، التراث العربي المخطوط في فِلَسْطين، تراث العرب السياسي، تراث العرب والمسلمين في العلاقات الخارجية».
توابل
نائب رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة فيصل الحفيان: صعود التيارات الإسلامية سبب الفتنة المذهبية
21-07-2014