قلنا في الحلقات السابقة، إن الأمير حمزة البهلوان قرر أن يسير إلى الحيرة، مقر حكم ملك العرب النعمان بن المنذر ليفرض عليه مواجهة الظلم الفارسي والتصدي لملك الفرس {كسرى أنوشروان}، لكنه في الطريق إلى الحرب صادف كثيراً من الأهوال.

Ad

كان الأمير حمزة ولد على يدي وزير الملك الفارسي، في مكة، حيث رأى الملك حلماً اعتقد أن تفسيره هو أن أحد فرسان {مكة} سينقذ ملكه وميراثه من الضياع، فأرسل من يرعاه ويدفع لأهله ليخرج الفارس العربي ليدافع عن حكم الفرس، وحين كبر حمزة التقى الخضر عليه السلام وأبلغه أنه سيحرر العرب من ظلم الدولة الكسراواية ويمنع دفع الجباية لملك الفرس من القبائل العربية التي كان الملك النعمان بن المنذر يقودها.

كان النعمان بن المنذر بلغه ما فعل الأمير حمزة برجاله ورجال {كسرى}، وذلك أن المنهزمين دخلوا إلى النعمان وأخبروه بكل ما جرى وكيف أن الأمير حمزة بن الأمير إبراهيم نزع منهم الأموال التي كانوا جلبوها من العرب وكيف أنه أوقع بهم وقتل جماعة منهم ولو لم يطلبوا الهرب والفرار لما نجوا من بين يديه، فغضب النعمان من ذلك غضباً شديداً، وأراد أن يجمع العساكر ويبعثها إلى مكة فاعترض عليه وزيره وقال له: {اعلم يا سيدي أن من الصواب أن تعلم بذلك {كسرى} وتدع رجاله المنهزمين يسيرون إليه ويخبرونه بما كان من الأمير حمزة}.

وقال وزير النعمان إن الأمير حمزة أحد رجال {كسرى}، مذكراً إياه بأن الوزير {بزرجمهر} جاء قبل أعوام عدة ومسيره إلى بيت الله الحرام لأجل هذا الغلام، فما كان من النعمان إلا أن قال لوزيره: {أصبت بذلك ومن الصواب أن أبعث إلى الملك {كسرى} اطلعه على كل ما جرى وأخبره بواقع الحال وأدعه يصدر إليَّ أمره في ما يريد وأبقى على الانتظار}.

وفي الحال كتب النعمان كتاباً إلى الملك الأكبر يشرح له ما كان من الأمير حمزة ويستخبر منه عما يريد أن يفعل به وبعث الكتاب مع رسول من قومه وسيره مع جماعة الأعجام المنهزمين وبقي هو على تلك الحالة لأيام عدة إلى أن بلغه الخبر بقدوم الأمير حمزة وجماعته إلى بلاده بصفة عدوانية، فاضطرب النعمان.

وبينما كان النعمان ينتظر أوامر {كسرى}سيده لعلمه أنه ينتظر بلوغ هذا الغلام، جمع النعمان رجال قومه واستشارهم في ما يفعل فقالوا له: {الأمير حمزة ما جاء بلادنا إلا بقصد العداوة ولا بد من أمر مهم وقع له ومن الصواب مطاوعته إلى حين وصول الأخبار إلينا من كسرى}. كانت {القناصة} بنت النعمان موجودة في الديوان فقالت لأبيها: {اعلم يا أبي أن هذا الأمير ما جاء إلينا إلا ليوقع بنا ويخرب بلادنا ويفعل ما لا يفعله العدو الألد، ولذلك أرى من اللازم ردعه قبل أن يصل شره إلينا وأني أتعهد لكم بذلك وأعدكم الوعد الصادق أني أسير إليه وأتيكم به أسيراً أو أفعل به ما فعلت بالأمير غشام قبل أن يصل إلى ضواحي المدينة ويقاتلنا بين البيوت}. فقال لها أبوها النعمان: {ما هذا الكلام إلا من قبيل الجهالة والأوهام فإنك لا تقدرين على الثبات بين يدي الأمير حمزة وهو وإن كان غلاماً إلا أنه شديد العزم والحيل وقد دلت عليه الدلائل قبل وجوده في هذا العالم}. فقالت لأبيها: {سترى ما يكون وتعلم أن ابنتك {القناصة} فضلاً عما هي عليه من شدة الحيل والبسالة هي صاحبة مكر وخداع عند القتال لا يقدر عليها أشد الرجال ولا بد لي من تنفيذ ما خطر في فكري}.

فلما سمع النعمان كلامها سكت عنها فنهضت في الحال وأخذت معها جماعة من البنات كانت اتخذتهن رفاقاً وقت الغزو والقتال وسارت من المدينة لتلاقي الأمير حمزة بعيداً عن الحيرة وفي نيتها أنها توقع به وتحتال عليه إذا لم تقدر عليه بالمبارزة فتأسره أو تقتله.

وكان الأمير حمزة يتقدم بجماعته ومعه اصفران الدربندي، صاحب الحصن ومخلوف، صاحب {القناصة}. وبقوا في مسيرهم إلى أن بقي بينهم وبين مدينة النعمان مسافة 12 ساعة فنزل في تلك الأرض وأمر قومه أن ينزلوا ليرتاحوا ويأكلوا الطعام ويباتوا تلك الليلة. قبل المساء تبينوا {القناصة} ومن معها من البنات وقد وصلت وضربت خيامها في تلك الأرض وكان حمزة يجهلها ولا يعرف من هي ولم يهتم مزيد الاهتمام بهذا الأمر لأنه رأى شرذمة قليلة لا تزيد على المئتين نفس لكنه تعجب، فدعا إليه مخلوف وسأله عن أولئك القوم: هل هم من جماعة أو من إحدى طوائف العربان؟ فقال له: {لا خفاك يا سيدي، أن هذه هي القناصة بنت النعمان ولا ريب أن خبرنا وصل إلى أبيها وعرفت هي به فأخذت المسألة على نفسها وتعهدت له بأنها تنهي الأمر وحدها، فجاءت بجماعتها البنات اللاتي ترهن أمامك}.

فغضب حمزة من ذلك وصعب عليه كيف أنه يقاتل البنات وهن خلقن لا للقتال ومن العار عليه قتاله لهن، غير أنه توجع في داخله من عمل القناصة وقال لمخلوف: {لا بد لي من تأديب هذه الجاهلة وتربيتها لتعلم حدود نفسها ولا تجسر ثانية على التعرض للفرسان}. فرد: {أنت تعلم يا سيدي ما كان بيني وبينها وقد أخبرتك به جلياً وأرجوك أن تسمح لي أن أبرز لها في الغد إذا كانت جاءت لأجل القتال وأني أحب أن آخذها أسيرة وأريد أن أقهرها وأتغلب عليها لتكون أسيرتي ولي حق أن أدعي عليها بأني أسرتها وملكتها في الميدان}.

وكان الأمير حمزة يعلم بقوة بأسه وأنه من الأبطال فتركه على ما أراد، وبعد ذلك وصل إليه كتاب من {القناصة} تتوعده بالحرب في الصباح وأنها جاءت لقتاله وردعه حيث بلغ أبوها خبره وعرف بقدومه فبعثها إليه لأجل هذه الغاية، فأجابها جواباً لطيفاً وقال لها إن ترجع إلى أبيها وإلا تلاقي في الغد ما لا يخطر لها على بال.

قال الراوي: {وفي صباح اليوم الثاني نهض الأمير مخلوف قبل الجميع لأنه كان طوال ليلته مسروراً ينتظر النهار لينزل إلى الميدان ويقنص {القناصة} ويأخذها أسيرة ويرغمها على الزواج به لأن بواقي حبها كانت باقية في داخله، وفور أن رأى ضوء النهار حتى سبق الجميع فركب جواده وبرز إلى ساحة الميدان وجعل يلعب على جواده كأنه السرحان، ومن ثم صار الرجال ينهضون ويركبون الخيول ويقصدون الميدان، وإذا بالقناصة قد ركبت مع باقي البنات وبرزت إلى ساحة القتال ولما رأت المخلوف ارتاعت وجفلت وقالت له: ويلك هل أنت باق بقيد الحياة وأنا أظنك هلكت وانقرضت ومضت عليك الأيام وأني كنت أريد مبارزة الأمير حمزة وقتاله لأريه غير أني الآن أرغب في أن أذيقك العذاب وأميتك شر ميتة حيث كذبتني عند أبي وبين قومي}.

 فالتقته وأخذا بالدفاع والقتال وهما بأشد عداوة يتقاتلان، وكل منهما بغاية وشأن هي تطلب هلاكه وإذلاله وفناء عمره وهو يطلب أسرها والحصول عليها وزواجها بالرضا أو بالغصب، وداما على مثل تلك الحال يتقلبان في ساحة النزال مدة من الزمان حتى ضاق الأمر على {القناصة} ورأت من نفسها أنها مغلوبة مع الأمير مخلوف فأرادت أن تعمد إلى الحيلة ولذلك عادت إلى الوراء وقالت له: {تمهل قليلاً في قتالي فإن الحر قد ضايقني وأريد تخفيف ما عليَّ من الحديد وكن بذلك منصفاً}. فقال لها: {افعلي ما بدا لك فإنك أصبحت في حوزتي ولا عاد لك خلاص من يدي}.

وإذ ذاك زاحت لثامها فبان عن وجهها الفتان يضيء كالبدر ثم أخذت منديلاً ورفعت الطاسة عن رأسها ومسحت به وجهها ورأسها وأسدلت شعرها فوق كتيفها إلى ظهر جوادها حتى كاد يصل إلى الأرض وهي تظهر التأفف والتضجر والمضايقة من الحر وضيق النفس من شدة العرق. فلما رأى مخلوف ما رأى اشتد به الوجد والهيام وضاع عقله وتاه في محاسنها ولم يعد يقدر أن يتمالك نفسه أو يثبت على ظهر الجواد.

ولما رأت منه ذلك صاحت به وانحدرت عليه كأنها الأسد الغائر وهي عالمة بشدة حبه وعشقه ومما حل به من عظم ما رأى ونظر، ورفعت الدبوس في يدها وضربته به فلم يمد يده إلى المدافعة ولا تستر منها بل قبل أن تصل الضربة إليه. وقع من هوائها إلى الأرض خلف جواده، فضحكت منه وأرادت أن تسرع إليه وتكمل عليه وترتاح منه وإذا بالأمير حمزة قد صاح بصوت كالرعد القاصف وهجم عليها هجوم الأسد الكاسر وقد خاف على الأمير وعرف أن العشق أضعفه حتى بعد فوزه وحل به ما حل وهو يتألم من خداعها وحيلتها. ولما وصل إليها انحط عليها انحطاط الصواعق وصاح بها وأخذ معها بالقتال والصدام فرأت منه أنه كالجبل الراسي وأنها لا تقدر أن تثبت أمامه أكثر من نصف ساعة فيهلكها ويميتها فأرادت أن تعمد إلى حيلة ثانية تتخلص بها منه ولذلك قالت له: {مهلاً يا سيدي}، فقال: لست ممن يؤخذ بالحيل والخداع فسلمي إليَّ نفسك في الحال وإلا نزلت بك الوبال وتركتك عبرة تضرب بها الأمثال في سائر الأجيال.

ثم زاد عليها الأمير حمزة في القتال فانبهرت من عمله ولم تر أوفق من التسليم والطاعة وطلب الأمان، فأمنها على نفسها وأن تسلم إليه أسيره فقادها إلى قومه. وكان مخلوف قد علم بنفسه وقام مرضوضاً من تلك الواقعة إنما كان العشق يضيع لأحواله فلا يعرف يمينه من شماله. ولما رآها وقد سلمت إلى الأمير وقادها إلى قومه فرح مزيد الفرح وأمل الفوز والنجاح وأن يأخذ تلك الليلة عروساً له ويشفي فؤاده منها. أما باقي البنات اللاتي كن معها فأنهن رجعن إلى الوراء وانهزمن في الحال فلم يتبعهن أحد ورجعن ليخبرن الملك النعمان.

إلى الحلقة الرابعة

أمر الأمير حمزة أن تقام الأفراح في الحال ويعمل عرس الأمير مخلوف لأنه وعده وأقسم له أنه لا بد من أن يزوجه القناصة بنت النعمان، ولذلك دعاها إليه وقال لها: {اعلمي أنك أصبحت الآن في قبضة يدي وأني أريد أن أزفك على مخلوف فهو أصبح من رجالي ومقدماً بينهم، ومن الصواب أن تصغي وتطيعي وأني لا أرجع عن هذا العزم قط، حيث ما نويت أمراً إلا فعلته وقد حتمت ذلك وأريد أن أجربه في هذه الليلة}. فسكتت ولم تبد خطاباً وعلمت أنها وقعت وألا خلاص لها إلا بالصبر واستعمال الحيلة عسى أن تساعدها المصادفة وتبعدها عن مخلوف. وبقي الفرح قائماً إلى الليل وبالليل أخذ مخلوف زوجته إلى نفسه ودخل بها صيوانه وأراد أن يقرب منها فقالت له: {تمهل. الآن أتريد أن تتزوجني غصباً فأنا رضيتك زوجاً لي لكني لا أرضى أن ألبس العار على نفسي وأجعل نفسي معيرة عند الكبير والصغير فيقال إني تزوجت رغماً عني وسبيت واغتصبت وأنت تعلم أني بنت الملك النعمان، ملك ملوك العربان. إذا كان الأمير حمزة لا يعرف عظم مقدرة أبي وقوة سلطانه فأنت تعرف ذلك وتعلم مقامه عند الملك كسرى أنو شروان فإذا فعلت قبيحاً لا يصبر عليك أبي بل يجازيك على عملك فمن الصواب أن تصبر وتبقيني عندك إلى أن ينتهي الأمر وتأخذني بخاطر أبي ورضاه وتزف زفافاً ملوكياً على رؤوس الأشهاد}.

قال لها مخلوف: {قد كفاني ما لقيت منك قبلاً وأنا لا أصدق أن أحصل عليك وأفوز بك. أما من جهة العار فقد عرف الجميع أني وانفردت بك وصرت ملكاً لك فلا تطمعي نفسك بالمحال}. تابع الراوي: {ثم جعلت تخدعه وتظنه يقبل منها وهو لا يقبل ولا يرضي أن يضيع وقتاً حصل عليه بعد معاناة أهوال وصعوبات وكانت الطبيعة لا تسلم معه بإجابة طلبها وما يعهده فيها من الكذب جعله لا يأمنها ويخافها. وباختصار، اتاها بالرغم عنها فصبرت عليه ولم تر أن حالتها أصبحت توجيهاً إلى البقاء معه والقرب منه كونه أصبح زوجها قولاً وفعلاً غير أن مزاياها والحنق كانا أكبر وسيلة لإضمار الانتقام في قلبها. وقد أظهرت رضاها منه وأبدت له حبها ومن ثم قصدت أن تنام وأظهرت التعب والملال فتركها وجعلت نفسها نائمة وبقيت صابرة عليه إلى أن تأكدت أنه نام وغرق في بحر الغفلة، فنهضت إلى سيفه فأخذته وضربته به على عنقه ففصلته عن جسده وأخذت الرأس وخرجت من الصيوان وذهبت من ذاك المكان تحت أجنحة الظلام حتى بعدت عن الخيام وأمنت على نفسها وارتاح بالها من جهة الأمير مخلوف، وهي تريد أن تخفي حالها ولا تدع أحداً يعلم ما حل بها خوفاً من الافتضاح. وكانت تخاف أيضاً من الأيام ألا تخفي أمرها فتظهر الحقيقة من حملها وبقيت سائرة إلى المدينة.