طُرِحتْ الديانة المسيحية منذ البدء على أنها امتداد للديانة اليهودية. ثم تطوّرت بعد حين وقُدِّمت ذاتها للبشرية كلها على أنها حركة إصلاح وتصحيح عام لليهودية وبشارة لجميع الأمم. وهكذا جاء يسوع المسيح بعدما طال زمان الانتظار اليهودي، وحفل بالفساد والبؤس والترقّب لنبي وملك لليهود ومخلّص لهم مما هم فيه.
ولكن حين أدرك يسوع المسيح أن اليهود ليسوا تربة صالحة للبشارة التي جاء بها، أشاح عنهم واتجهت خطاه نحو "الفداء الأعظم" على خشبة الصليب، فمات ثلاثة أيام- حسب المعتقد المسيحي- ثم أمر بعد قيامته من الموت تلاميذه المعروفين في المصطلح المسيحي بالرسل، وفي المصطلح الإسلامي بالحواريين، أن يبشروا الأمم بخلاص الإنسان، وأن يمضوا إلى أنحاء المعمورة يدعون ويبشرون شرقاً وغرباً. وفي مرحلة تالية سيكون للأناجيل الأربعة المقبولة لدى المسيحيين كافة- والتي عُرِفت باسم "العهد الجديد" تمييزاً له عن "العهد القديم" المشتمل على أسفار التوراة- الأثر القوي في الجدل والاختلاف اللذين نشبا بين الكنائس. وجله يتمحور حول جوهر المسيح وحقيقته، وحول ماهيته وطبيعته، وحول بشريته وألوهيته (الناسوت واللاهوت). وكان من البديهي أن يتشوش الإيمان (القويم- الأرثوذكسية) بسبب تعدد الرؤى الإيمانية وتناقضها وبسبب اختلاف ألسنة الناس ولغاتهم وأوطانهم في المناطق التي انتشرت فيها المسيحية مبكراً. فتعددت تبعاً لذلك صورة المسيح في الأذهان، بين كونه "ابن الله" أو ما سوف يُسمى "صورة الله" أو "الله بذاته" من ناحية، ومن الناحية الأخرى كونه "رسول الله" أو "نبي الله" أو "الإنسان المتألّه". وهكذا انشغلت المسيحية وأناجيلها بالمسيح وحياته ومعجزاته وأقواله، من دون الإشارة إلى الإلهيات التي هي أصول كل دين، وكأن المسألة برمتها هي "المسيح" لا الله، أو كأنه هو هو! ولأن كل ما هو إلهي قد أمسى متعلقاً بالمسيح، فإن المشكلة الكبرى في اليهودية "صفات الله" لم تعد مطروحة للنظر، وإنما صار الإيمان القويم (الأرثوذكسي) إيماناً بالمسيح الذي هو الله، وصار التشكيك في ألوهيته التامة يعني الكفر بعينه، أو هو بحسب الاصطلاح المسيحي: هرطقة. في فصل لاحق بعنوان "النبوّة والبنوّة" يفصّل يوسف زيدان في مسألة اختلاف العقلية لدى المصريين والرومان عن العقلية لدى عرب الهلال الخصيب (العراق والشام) فيما يخص جوهر المعتقد المسيحي في نبوة أو بنوّة المسيح. فيرى أن المصريين والرومان حين انتشرت بينهم المسيحية آتية من فلسطين، وجدت فيهم من يتقبل فكرة أن المسيح ابن الله ويعتنقها، وذلك بسبب تأثرهم بموروثهم الوثني القديم. إذ لديهم ثقافة دينية وثنية تعترف بأنصاف الآلهة وبالبشر الذين تحدّوا الأرباب أو اتحدوا معهم، فخلدهم الناس شعراً ونثراً وأقاموا لهم المعابد وقدسوهم في أبهائها. وعلى عكس هذا النزوع الميثولوجي القديم المصري واليوناني لتألّه الإنسان وتأنّس الإله، كانت الديانات السابقة على المسيحية في منطقة الجزيرة العربية والهلال الخصيب ترى الآلهة (الأصنام والأوثان) مفارقين تماماً لعالم البشر، أو بشكل عام اعتقدوا بوجود مسافة شاسعة بين الله والإنسان، وهي المسافة التي يهيم فيها بحسب اعتقاداتهم القديمة، الجن والعفاريت والغيلان، إلى آخر هذه (الكائنات) الوسيطة. وعليه فالعقلية العربية التي عاشت في هذه المنطقة من العالم تتلقى المسيحية بفهم آخر يخالف الفهم المصري واليوناني، وتقترب في معتقدها في فهم المسيح داخل إطار النبوّة لا البنوّة. ومن هنا اعتبر أولئك (الأرثوذكس) هؤلاء العرب "هراطقة" ورأوا فهمهم لصورة المسيح داخل إطاره (النبويّ / البشري) هرطوقياً. والخلاصة أن هذه المساجلات والمجادلات ومن ثم الصراعات العقائدية، دارت جميعها حول موضوع واحد هو المسيح. وعليه فإن ما يُسمى في التراث المسيحي باللاهوت إنما هو لاهوت لا يتعلق في مجمله بالله ذاته، بل يدور جوهره حول المسيح الذي صار (الله) عند فريق وصار (نبياً) عند آخر.(*) عرض وتحليل لكتاب يوسف زيدان يحمل ذات العنوان.
توابل
اللاهوت العربي (2 – 4)
26-08-2014