مونديال الشعر 2... لعبة الأغبياء أم مسرح الحياة؟!
في كتب اهتمت بكرة القدم، حوادث تعبر بشكل جذري عن علاقة الشعر والشعراء بكرة القدم، هي علاقة قائمة على السحر، كأن أجمل القصائد تكتبها المستديرة الساحرة.
يخبرنا إدواردو غاليانو، في كتابه {المثقفون وكرة القدم}، أن الشاعر خورخي لويس بورخيس اختار أن يقدم محاضرة له عن الخلود في بيونس أيريس في الساعة نفسها التي كان يخوض فيها المنتخب الوطني الأرجنتيني أولى مباريات المونديال، ولا يخبرنا غاليانو عن عدد الذين حضروا تلك الأمسية لأحد أعلام الثقافة العالميين، وهذه إشارة إلى أن بورخيس لم يكن يؤثر الألعاب الشعبية. وبمناسبة إحدى دورات كأس العالم صرَّح بورخيس بأن كرة القدم هي لعبة الأغبياء، فردَّ آرنستو ساباتو بالقول إن حكم بورخيس نابع من كونه لم تلمس رجلاه الكرة في حياته.
في مقلب مواز، يروي أشرف عبد الشافي في {المثقفون وكرة القدم} أن إحدى أمسيات محمود درويش الشعرية في مدينة فاس المغربية، تصادفت مع موعد إقامة مباراة مهمة بين فرنسا وإسبانيا، وفوجئ الشاعر الفلسطيني بالحضور الكثيف في القاعة، فتوجه إلى جمهوره، قائلاً: «أنا من جهتي أفضل متابعة المباراة حتى ولو كان من سيحيي الأمسية هو المتنبي». ومن شدة تعلق درويش بالكرة كتب مقالاً طويلاً عن الساحر الأرجنتيني مارادونا، في مجلة «اليوم السابع» التي كانت تصدر في باريس. يصفه أشرف عبد الشافي بأنه كان «كروي الهوى، يعشق سحر الكرة ويتغزل بمهارات لاعبيها».علاقة ملتبسةبين بورخيس ودرويش تتجلى العلاقة الملتبسة بين الشعراء وكرة القدم إلى درجة أن شاعراً شعبياً مثل درويش كان من الممكن أن يعطل أي شيء مقابل أن يشاهد مباراة كبيرة لكرة القدم.كذلك تحضر هنا صداقة الكُتّاب بلاعبي كرة القدم، وأقرب لعبة إلى الأدب هي كرة القدم. لا يختلف الأمر مع ت. س. إليوت، الذي كانت له بالساحرة المستديرة علاقة عشق خاصة، بل وصل به الأمر إلى مهاجمة من يكرهونها، واصفاً إياهم بـ{الأغبياء». ويعترف إليوت بأنه كان يتهرب من الندوات التي يصادف موعد انعقادها إقامة مباريات في كرة القدم، وكان يتابعها بشغف، ويقول إن «كرة القدم هي العنصر الأساسي في الثقافة المعاصرة، وإن الشعر والقصة والرواية ليست عناصر أهم من تلك اللعبة التي تحمل ثقافة الشعوب وتعكس تحضرها»... الكرة لغةبورخيس واحد من قلة أعلنت صراحة كرهها للكرة، ودرويش واحد من عشرات الشعراء أعلنوا عشقهم الصريح لهذه الظاهرة، من بينهم الشاعر الأرجنتيني خوان خيلمان الذي لم يمنعه الشعر والسياسة والنضال وعشق النساء من ممارسة كرة القدم، وهو توفي قبل أسابيع، سرقه الموت قبل أن يتابع مونديال البرازيل.الشاعر الإيطالي بيير باولو بازوليني أول من قال إن كرة القدم هي {لغة} لأنها تضم مجموعة من الرموز التي يمكن فهمها والتعامل معها من دون الحاجة إلى أي لغة أخرى. في مراهقته، تابع بازوليني دراسة الفلسفة، الأدب وتاريخ الفن. إلى جانب شغفه بالكلمات، عزَّز اهتمامه بالرياضة، خصوصاً كرة القدم، ويتبدى ذلك في كتابه {الملاعب/ كتابات حول الرياضة}، الذي يبرهن ويبلور هذه العلاقة الحميمة التي تربطه بعالم الرياضة. وكان بيير باولو بازوليني يقول عن المنتخب الإيطالي في مرحلة من المراحل {إنهم يلعبون كرة القدم في نثر جيد تتخلله أشعار لامعة، ولكن طبيب الأسنان أسكتهم}. عشرات الشعراء كتبوا قصائد عن كرة القدم من بينهم: الألماني ريلكة والإيطالي أومبرتو سابا الذي تغنى بجمالية كرة القدم في أكثر من قصيدة، وهو كان يمقتها قبل ذلك ويستغرب {من تلك الجماهير الساذجة التي تتابع تطور كرة من المطاط}. ولكنه ذات يوم نزل عند رغبة ابنته التي كانت تود مشاهدة فريق بلدتها، {تريسته}، فذهب معها إلى الملعب، وهناك غير رأيه تماماً. فقد نفسه، ووجدها ملفوفة ومحاطة بدفء الجماهير، وكتب في ذلك خمس قصائد.الشاعر الروسي يفغيني يفتوشينكو، هو الأشهر من بين الشعراء الذين مارسوا كرة القدم قولا وفعلاً وعشقاً، هذا الشاعر الذي كان يحب فريق كرة القدم لمدينته الصغيرة في سيبيريا {سيما}، كاد أن يصير نجماً رياضياً في كرة القدم كحارس مرمى، قبل أن يهجرها وهو في الخامسة عشرة.كان يفتوشينكو الذي صدرت مذكراته بالعربية مدمناً في مراهقته على لعب كرة القدم، في الليل يكتب الشعر وفي النهار يلعب كرة القدم في الساحات. ويعود إلى البيت بسروال ممزق وركبتين داميتين. صوت الكرة كان يبدو له أشد النغمات الموسيقية سحراً. تعلم أن الأهم ليس أن يتقن اللاعب الهجوم فحسب، ولكن أن يراقب، ذلك لأنه يرى أن قواعد كرة القدم أبسط من قواعد الأدب. إذا سجل اللاعب هدفاً فالدليل الحقيقي على ذلك يظهر إلى العيان فوراً: الكرة في الشباك، وعلى عكس ذلك فإن على الشاعر أن ينتظر وقتاً طويلاً ليثبت أن كرته أصابت الهدف...الأرجح أن الشعراء كانوا يجدون في كرة القدم قصائد بصرية، أو الكلمات أعجز من تجسيد سحر الكرة في قصائد، ولهذا نلاحظ أن عشقهم الكرة لم يدوّن في الكثير من القصائد.