ماذا نقول عن الكراسي السياسية في العالم العربي وقد شغلت الكثير من الباحثين والفنانين التشكيليين والأدباء، ماذا يمكننا أن نكتب عن معنى الكراسي في هذه البلاد؟ ولعل أبرز الأعمال التي وظفت طيف الكراسي لقول ما لا يقال، كانت مسرحية {الكراسي} للكاتب الروماني يوجين يونسكو وقد غدت نصاً كلاسيكياً ورمزاً من رموز مسرح اللامعقول (العبث).
يلمس المرء الخواء والقتامة، تنوءان على روحَي الشخصيتين الرئيستين في المسرحية، وهما العجوزان اللذان يكابدان عزلة في القلعة، ربما مبعثها فشلهما في التواصل الإنساني، وهما يترقبان وصول المدعوين، قصد سماع فحوى رسالة عزم الزوج على تركها للأجيال المقبلة، باعتبارها تعكس خلاصة تجربة حياته. وحتى يتم إبلاغ الرسالة استأجر العجوزان خطيباً لينوب عنهما في إلقائها، وبعدما غصت خشبة المسرح بكراسي الشخصيات المزيفة أو الفارغة. اعتقد الزوجان أن رسالتهما ستبلغ لا محالة، فأقدما على الانتحار.عقب انتحارهما قرر الخطيب بعد تردد أن يلقي الرسالة، إلا أنه تبين أنه أخرس، وأمام عجزه اهتدى إلى فكرة كتابة الرسالة، إلا أنه بمجرد ما شرع في الكتابة أدرك جهله بها، وعدم قدرته على التواصل مع الحاضرين. ألا يشبه هذا المسرح اللامعقول الواقع المرير في سورية ولبنان ومصر والعراق وليبيا؟وبحسب حوار مع الصحافي غي دومور في مجلة إكسبرس، يؤكد يونسكو أن موضوع المسرحية يتمحور حول لاواقعية العالم، وأن وجود الكراسي فارغة، يعبّر عن الغياب، أو أننا نعيش في وسط عالم يختفي، أو يجب أن يختفي، والعجوزان على الخشبة هما أيضاً غير موجودين في شكل ما، فهما وُجدا ليس لتحريك الكراسي في الفراغ فحسْب، وإنما لتحريك الفراغ التاريخي، وهو موضوع المسرحية الأساسي.مسرحية يونسكو التي تنتمي إلى مسرح اللامعقول (العبث) يمكن اسقاطها على النسيج السياسي العربي في هذه المرحلة بالذات، ربما بسبب اندفاع الربيع العربي الذي تحول خريفاً آخر رغم مدحه من كثر والتعويل على رمزيته وعلى ثوريته. ويزيد وقع اللامعقول مع المسرحيات الانتخابية من بلاد الرافدين إلى {بلد المليون شهيد}، ذلك لأننا نعيش مرضاً يمكن تسميته بـ«مرض الكرسي} يصعب إيجاد دواء له في هذه المرحلة، مع أن الكتاب يقولون الحل بدواء الديمقراطية. لكن يبدو أن الجسم العربي ما زال لا يتقبل هذا الدواء ولا يريد تناوله.\ باسم الديمقراطية غزت أميركا العراق، ولكن الغزو جعل بعضهم يترحم على زمن الاستبداد، إذ ظهرت بدل صدام عشرات الصداميين. وحين رأينا صورة كرسي صدام حسين الذي سقط بعد الغزو الأميركي، بدا كأننا نرى كرسيا لرجل مصاب بجنون العظمة أو كأنه فرعون مفرعن، كرسي ضخم مزين بعبارة {نصر من الله وفتح قريب}، تدحرج صدام من الكرسي إلى الحفرة ثم إلى المشنقة. والعبث في العراق كان أشد فتكا بعد رحيل صدام، كأنه المسخ الذي يفرخ نسخه في الصغير والكبير، وما يجرب في العراق الآن من صراع دموي حول السلطة يعبر عن غياب العراق وفراغه، هو واقع اللامقعول، بلد انحدر من قمة المعنى إلى ذروة الفراغ.ذهبسقط {العقيد} الليبي معمر القذافي بعد ثورة دموية وتدخل خارجي، تدحرج {العقيد} من كرسيه الذهبي إلى قبر مجهول، وبقيت ليبيا في دائرة العبث الميليشياوي والفراغي، انتقلت ليبيا من {جنون} العقيد وسرياليته إلى المجهول والفراغ. لا يختلف الأمر في سورية، حيث احرق بشار الأسد المدن السورية من أجل البقاء على الكرسي، جعل سورية فارغة من معناها ودورها من أجل البقاء على الكرسي والانتصار الفارغ، وبتنا أمام مشهدية فوق واقعية أو لامعقولة، انحدرت بالبلد كله ليتحول مسرحاً للامعقول ومسرحاً لحروب الآخرين. وفي الجزائر بدا مسرح اللامعقول في نسخته الأشد عبثية، ظهر الرئيس في هيئة رئيس متخشب فوق كرسي السلطة المتحرك وهو يبايع نفسه أمام صندوق الاقتراع في الجزائر، ونشرت صورته الصحف الغربية بأنابيب تنفس اصطناعية وهو يشرب القهوة العربية مع رئيس أقوى دولة في العالم.أما في لبنان فيعيش اللبنانيون على موعد دائم مع مأساة الكرسي، إذ لم تمر انتخابات رئاسية من دون أزمة وطنية. وفي خضم الحديث عن الانتخابات الرئاسية واحتمالات الفراغ، الأرجح أن لبنان يعيش اللامعقول منذ بداية الحرب الأهلية عام 1975 وقد استمر بهذه الوتيرة في مرحلة الوصاية السورية، كأن هذا البلد الصاخب غير موجود.فوينتسوكلام يونسكو الرمزي عن {الكراسي} ذكره الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس بطريقة أكثر مباشرة وسياسية في روايته {كرسي الرئاسة} وقد بناها على حدث افتراضي مستقبلي متخيل. هذا الحدث الافتراضي يحدد طبيعة السرد، ويرسم مناخات هذه الرواية التي تكشف عن جوانب من اللعبة السياسية في أميركا اللاتينية.تتضمن الرواية نحو سبعين رسالة يتفاوت حجمها بين صفحة وصفحات. وهي تكشف عن المزاج السياسي السائد في المكسيك، وكيف يتنافس الساسة ويتآمرون للوصول إلى كرسي الرئاسة؛ أو للاستيلاء على «عرش النسر»، وفقاً للشعار الوطني المكسيكي الذي يمثل نسراً يجثم بمخالبه فوق نبات الصبار ويلتهم ثعباناً. منذ الرسالة الأولى نكتشف موقف فوينتس من السياسية والسياسيين، إذ نقرأ فيها، وهي موجهة من ماريا دل روساريو إلى نيكولاس بالديبا، هذه العبارات الصريحة: لكي تكون سياسياً يجب أن تكون منافقاً، ولكي تمضي قدماً يصبح كل شيء مقبولاً. يجب ألا تكون كاذباً ومخادعاً فحسب، بل ماكراً أيضاً... فكل سياسي يصعد إلى الأعلى يجر وراءه هياكل عظمية، مثل علب الكوكا كولا المربوطة في ذيل قطة متمردة لكنها خائفة».
توابل
كراسي الرئاسة في العالم العربي... مسرح اللاّمعقول
14-05-2014