حصار العربية
كنتُ تحدثت قبل فترة عن رحابة اللغة الانكليزية في استيعاب المفردة الغريبة، واللهجة الغريبة، ورحابة الانكليزي في تحمل خطأ المتحدث، واستعذاب تحريفاته. وكيف كان هذا سرّ عالميتها، وكيف يضيق العربي العارف بها بهذه الرحابة، طمعاً في أن يمنحها صبغة القداسة التي منحها للغته العربية.على شاشة التلفزيون تابعتُ، في غمرة الأمواج الدامية لأخبار العراق، تغطيةً لمؤتمر حول صيانة العربية، تحدث فيه جمعٌ من مثقفي البلد، وكتابه، وشعرائه، ورجال دينه. وأدهشني منه هذا الاجماع على الشكوى المرة من ضعف التعليم، وشيوع الخطأ في لغة الكتابة، ولغة القراءة، ولغة الحديث، ولغة الإعلام. كما أدهشني الإجماع على احترام قدسية هذه اللغة، لغة القرآن الكريم، وعلى ضرورة صيانتها من العجمة، وتفشي العامية، وانتهاك المفردات الأجنبية غير المعربة، وهل أدعى إلى الحذر من تجريد العرب من عربيتهم!
ولم يخرج صوتٌ واحد عن هذا السياق، ويعكّر سطحَ الماء الذي بدا لي راكداً. ولعلي أشك أن أحداً من هذا الجمع لن يرتاب من رأيه، لو سمعه من جديد في آلة تسجيل. لأن المنطق والعقلَ يقولان إن اللغة التي تسكنها المحرمات، وتحيطها صفة القداسة بالرعاية لن تتطور، ولا يصح أن تتطور. فالمقدس يفلت حراً من حركة الزمان. وهذا ما حدث لـ"لسان العرب"، بفعل هذه التطلعات التي اتضحت على لسان الصفوة المشاركة في التغطية الصحفية. كنت أتصور أن أحداً سيشذ عن السياق ليقول: إن كل العناصر التي يرون فيها تهديداً لعصمة العربية هي، لو تأملوا، عناصر الحياة ذاتها على هذه الأرض. فزحمة معارف العصر، وتدفق أفكاره وعلومه وآدابه في كل اتجاه، واختلاط شعوبه، بوسائل تواصل كاسحة، بدءاً بالطائرة وانتهاءً بالانترنت، وهي تدفع الأمم إما إلى مرتفع الرقي، أو إلى منحدر الانحطاط، كلها عناصر حياة لا مفر منها. وهم يريدون من العربية أن تُخفي رأسها في الرمل فلا ترى!أذكر في الستينيات من القرن الماضي أن مشادةً غير متكافئة، من حيث الكم لا الكيف، حدثت بين الدكتور علي الوردي وبين محافظي اللغة. دائرة مصلحة نقل الركاب كتبت تنصح المواطن على مدخل باب الباص ذي الطابقين: "ساعدْ الجابي بأصغر نقد كافي"، هكذا بالياء التي لم تُحذف بسبب التنوين. فقامت قيامة المحافظين على هذا الخرق، وردهم الدكتور الوردي منتصراً للمصلحة والمواطن. فالخضوع للقاعدة يقتضي حذف الياء وتنوين الفاء. والمواطن لو قرأ جملة "بأصغر نقد كاف" لتعثر فهمُه، ولأهمل النصيحة بجملتها. فأي خيار أسلم، أن تتواضع العربية قليلاً فيفهم المواطن بيسر، أو أن تكابر وليذهب فهم المواطن إلى حيث ألقت!أنا من محبي العربية، ودائماً أنصح الآخر حين نتحاور بأن يعتاد قراءةَ العربية بصوت مسموع، وخاصة عربية التراث والشعر. هذه القراءة المصوّتة أو الهامسة تقوّمُ اللسانَ، فتلين عليه مخارجُ الحروف، وتتدفق موسيقى اللغة الحبيسة. ما من مرة قرأتُ قصائدي بالعربية على الجمهور الغربي إلا واستعادني طرِباً. ولكن حبي هذا يسعى أيضاً إلى تحريرها من لمسة القداسة التي اعتقلتها. ولا أجد تعارضاً بين الفاعليتين. لأن العربية لن تفقد موسيقاها حين تتسرب إليها العامية، أو حين تتحمل حرف الياء في كافي، أو حين تتعرض للمصطلح المترجم، وللمفردات الأجنبية. ولعل هذه الأشياء لن تبدو كاسرة، لو تلاشى من حول العربية حصار التحريم والتقديس المتزمت. على العكس ستمنحها أنساغاً غذائية جديدة من لغات ابن آدم العديدة، في المعنى وفي الموسيقى، لأن هذه الموسيقى جوهر في العربية.المشكلة أن طبع العربي ميال إلى التقديس. ولا غرابة في أن نعرف أن العرب كانوا يقدسون الشعر، ويعتقدون أن هذا التقديس مستمد من أصله الديني، ولذا كانوا ينشدونه في بعض الأحوال وهم على وضوء. ثم جاءت قدسية القرآن، وقد نزل عربياً مبيناً، لتضاف إلى قدسية الشعر، فحلت قدسيته في اللغة.