سورية لا تكشف عن نظام عالمي جديد
يعجز مجلس الأمن عن اتخاذ القرارات، في حين يرفض حلف الناتو التدخل، لذا حصلنا على مجموعة متخلفة من مصادر النفوذ السلبية المؤججة للنار، مع تقديم واشنطن وحلفائها الدعم لميليشيات إسلامية، في حين تؤيد إيران الأسد لأن ذلك يخدم مصالحها فحسب.
أهكذا يبدو العالم بلا قادة؟ كان هذا رد فعل كثيرين تجاه المشهد الأخير في جنيف، حين اجتمعت معظم قوى العالم لتحاول (وستخفق على الأرجح) وضع حد للحرب الأهلية المريعة في سورية.كان مسؤولو بشار الأسد حاضرين، وكذلك قادة عدد من فصائل الثوار. ضم هذا الجمع أيضاً روسيا، داعم الأسد الذي يزداد تردداً، شأنها في ذلك شأن الولايات المتحدة التي تدعم بصمت بعض مجموعات الثوار، مع أنها تحاول تفادي تشكل دولة سورية يقودها الإسلاميون، وكان مبعوث الأمم المتحدة موجوداً أيضا، بخلاف إيران، الداعم الأكبر لنظام الأسد العلماني إنما غير الديمقراطي. رغم ذلك، ساهم الرئيس الإيراني حسن روحاني في هذا الاجتماع من خلال نفوذه وتصريحاته، وحضرت إلى جنيف أيضاً حليفتا الولايات المتحدة، المملكة العربية السعودية وقطر، اللتين تقدمان السلاح للثوار (بمن فيهم مجموعات تابعة لتنظيم القاعدة). وأخيراً، شملت الدول المشاركة تركيا، عضواً في حلف شمال الأطلسي يدعم الثوار الإسلاميين الأقل تطرفاً.
إذا كان هذا "النظام الدولي"، فهو يفتقر إلى التنظيم إلى أقصى الحدود. أدت الحرب، التي تشتعل منذ ثلاث سنوات، إلى أكثر من مئة ألف قتيل، ونحو مليوني لاجئ، وفظائع تاريخية (كما تُظهر أخيرا صور نحو 10 آلاف مسجون جوعهم الأسد حتى الموت). رغم ذلك، ما من هيئة دولية أو بلد تمكن من التدخل بطريقة حاسمة، فلا تملك الولايات المتحدة أو روسيا الرغبة والموارد الضرورية لتحقيق انتصار عسكري (مع أن هاتين الدولتين وحدتا جهودهما إلى حد ما لمنع المزيد من الاعتداءات الكيماوية). كذلك يعجز مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عن اتخاذ القرارات، في حين يرفض حلف شمال الأطلسي التدخل. نتيجة لذلك، حصلنا على مجموعة متخلفة من مصادر النفوذ السلبية التي لا تكف عن تأجيج النار، مع تقديم الولايات المتحدة وحلفائها الدعم للميليشيات الإسلامية، في حين تؤيد إيران حليفاً علمانياً سابقا للولايات المتحدة لأن ذلك يخدم مصالحها فحسب.هل هذا النظام العالمي الجديد؟ يعتبره البعض كذلك، فمن وجهات النظر التي تزداد شعبية أن المعمعة السورية ترمز إلى عالم ما بعد الحرب الباردة والقوى العظمى، عالم سُلب ثوابته القديمة.هذه وجهة نظر مؤسسة مجموعة "أوراسيا" إيان بريمر، الذي يصف بحماسة "عالماً بلا أقطاب" (عالما خالياً من أسسه المتينة، مثل مجموعة الثماني أو مجموعة العشرين) في مقالاته وفي كتابه Every Nation For Itself (كل أمة لنفسها). يتمحور مصدر قلق بريمر الأكبر حول غياب الأمم والتحالفات التي تُعتبر قوى عظمى نافذة. يكتب بريمر أننا نعيش اليوم في عالم "لا تتمتع فيه دولة واحدة أو كتلة دول واحدة بنفوذ سياسي واقتصادي، أو بالإرادة، لتوجه الأجندة الدولية الحقيقية، وستكون النتيجة صراعاً محتدماً على المسرح الدولي". على نحو مماثل، كتب ستيوارت باتريك من مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن أخيرا مقالاً مثيراً للاهتمام فصل فيه رؤيته عن عالم "G-X". ركز باتريك على انهيار "منتدى الأمم المتحدة الضخم" وغيره من القوى التي تشكل الائتلافات، فقد تراجعت المعاهدات الكبيرة والهيئات العالمية، وفق باتريك، "في حين صارت الولايات المتحدة وغيرها من الدول تعتمد على المنظمات الإقليمية، و"تعاون محدود" بين دول معنية، وقواعد السلوك، وشراكات مع لاعبين غير حكوميين... ومن خصائص عالم G-X بروز تحالف مؤقت غريب بين قوى قلّما تتفق".يبدو هذا شبيهاً إلى حد كبير بما نراه في سورية اليوم، فيصف كلا الباحثين بريمر وباتريك بدقة الطبيعة الفوضوية الراهنة لنظام العالم، لكن السؤال الذي ينشأ: هل هذا حقاً نظام عالمي جديد؟ميزت عهد القوى العظمى صراعات مثل الحرب السوفياتية الأفغانية، التي قدمت خلالها الولايات المتحدة المال للمقاتلين الإسلاميين (بمن فيهم أناس قاتلوا بكل طيب خاطر إلى جانب أسامة بن لادن). وقد عجزت كل الدول والهيئات عن تمرير قرار حاسم. أضف إلى ذلك الحرب الإيرانية-العراقية، التي مدت خلالها الولايات المتحدة صدام حسين بالمال ليهاجم إيران، وعملت لاحقاً على تقديم السلاح لإيران كي تمول حرب الميليشيات في أميركيا الجنوبية. إذاً، كان "التحالف المؤقت الغريب بين قوى قلما تتفق" القاعدة السائدة لا الاستثناء.وماذا عن العقدين التاليين؟ عجزت الأمم المتحدة ومجموعة السبع أو الثماني والقوى العظمى عن ممارسة "القيادة" في كل الصراعات الكبيرة تقريباً، ففي البوسنة وكوسوفو، تمكنت الائتلافات المؤقتة بين الأطراف الأوروبية في النهاية من إقناع الولايات المتحدة، وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وحلف شمال الأطلسي بالانضمام إلى الصراع بغية حماية السكان المسلمين بمعظمهم من الهلاك. كذلك انتهت حرب سيراليون المريعة بعد عقد، عندما حضت بريطانيا عدداً من الأمم على التعاون معها وأعادت إقحام الأمم المتحدة في هذه الحرب. أما أفغانستان، حرب شنها حلف شمال الأطلسي بتفويض من الأمم المتحدة، فتشكل الاستثناء الذي يبرهن القاعدة، فضلاً عن أننا لا نستطيع اعتبار نتيجتها "قيادة". وتكمن المفارقة في أن تدخل الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي في ليبيا عام 2011 يُعتبر أبرز ما يمكن تخيله عن نظام العالم "القديم" الذي يصفه هذان الباحثان.مؤقت، وفوضوي، ومتناقض، وغير فاعل، ومتضارب: لا تشكل هذه أوصاف نظام عالم جديد، بل تصف نصف القرن الماضي بصراعاته البشعة التي كانت أقل وتيرة.Doug Saunders