إن الجدال الدائر حول رفع الحد الأدنى لقدرة الحكومة الأميركية على الاقتراض- الذي انتهى الآن لحسن الحظ، على الأقل لبضعة أشهر- يؤكد المخاطر التي تفرضها المديونية المفرطة من قِبَل الدول. فالحكومات في أيامنا هذه تدير في الأساس آلات عملاقة لإعادة التوزيع والتي تعمل على توجيه الأموال من دافعي الضرائب إلى متلقي التحويلات وغيرهم من المستفيدين من الإنفاق العام. والإنفاق العام يتطلب الزيادة بشكل دائم، في حين يحاول دافعو الضرائب الدفاع بحماس عن حافظة نقودهم.
وفي النهاية، يميل الحل لـ"معركة إعادة التوزيع" هذه إلى الكمون غالباً والمضي قدماً في المزيد من الاقتراض الحكومي. وبالنسبة للنظم الديمقراطية اليوم، فحقيقة أن أولئك الذين سيضطرون في نهاية المطاف إلى دفع الضرائب لخدمة الديون الناجمة عن ذلك لا يمكنهم التصويت بعد، تجعل من الاقتراض الوسيلة الأنسب للخروج من معركة سياسية شرسة.ويصبح إغراء الاقتراض لا يقاوم إذا كان بوسعنا أن نفترض إمكانية تحويل العبء إلى مجموعات سكانية غير تلك التي تستفيد اليوم من الضرائب المنخفضة أو الإنفاق العام الأعلى. وهذه هي الحال مع الأشخاص الذين ليس لديهم أطفال على سبيل المثال: فهم يستفيدون من الاقتراض العام ويتمكنون من تحويل جزء من خدمة الديون، التي لن تصبح مستحقة إلا بعد رحيلهم عن الدنيا، إلى أحفاد أسر أخرى.بقدر ما يشارك الآباء الذين يضعون في اعتبارهم مصالح أبنائهم وأحفادهم في العملية السياسية يصبح من الممكن كبح جماح الإدمان على الاقتراض. وإذا كان هذا هو ما يحفز موقف الجمهوريين المتشددين في معركة إعادة التوزيع الجارية الآن في الولايات المتحدة، فإن قضيتهم تصبح مستحقة- محاولة حماية ذريتهم من الاستغلال. ومن هذا المنظور فإن مشاعر الجمهوريين الكامنة وراء مأزق سقف الديون الأخير قد تكون مستحبة، مثل الحظر الذي يفرضه الدستور الألماني على تمويل الديون بأي شكل من الأشكال، وهو الحظر الذي سيدخل حيز التنفيذ في موعد أقصاه عام 2016 على المستوى الفدرالي وعام 2020 على مستوى ولايات ألمانيا.وتُعَد تبادلية الديون بين الدول مثالاً آخر، كذلك الذي يجري تنفيذه الآن في الاتحاد الأوروبي. فأولاً، تقترض الدول فرادى بما يتجاوز أي مستوى معقول، وهي تدرك أنها سوف تنقذ من الإفلاس بفضل عمليات الإنقاذ الممولة من قِبَل دول أعضاء أخرى. في البداية يتخذ الإنقاذ هيئة القروض بين الحكومات، بحيث يصبح من الممكن الحفاظ على تصور واهم بأن كل دولة تسدد ديونها بنفسها. ولكن بمجرد توزيع الديون، تبدأ التبادلية في إظهار وجهها الحقيقي، فتتخذ هيئة الإعفاء من الديون.ففي حالة أيرلندا، تم تحويل 40 مليار يورو (54 مليار دولار أميركي) في هيئة قروض طارئة كمساعدة لتوفير السيولة من البنك المركزي الأوروبي إلى سندات طويلة الأجل بأسعار فائدة أدنى من مستوى السوق بعد انهيار البنك الذي أنشئ لتوحيد القروض المتعثرة لبنك أنجلو الأيرلندي. وقبل نحو عام واحد، تم تمديد أجل استحقاق القروض بين الحكومية التي حصلت عليها اليونان إلى نحو ثلاثين عاماً في المتوسط، وبأسعار فائدة تفضيلية للغاية؛ بل وتم التنازل عن الفائدة لمدة عشر سنوات. وكانت تلك الخطوة تمثل الإعفاء من دين يبلغ 47 مليار يورو، بالقيمة الحالية.وهذه ليست نهاية القصة. فهناك حديث الآن عن تمديد آخر لأجل الاستحقاق والمزيد من الخفض لأسعار الفائدة بالنسبة لليونان.وفي كل هذه الحالات، يتم تحويل عبء الديون لأغراض عملية إلى بلدان أخرى. ونتيجة لهذا فإن شهية بلدان منطقة اليورو للاقتراض تظل جامحة، في حين يتم بهدوء تنحية آليات العقوبة الواردة في "الميثاق المالي" للاتحاد الأوروبي جانباً. وبدلاً من تحمل عبء خفض الإنفاق أو زيادة الضرائب، تختار البلدان الاقتراض، لأنها تعلم أنها تستطيع تحميل آخرين جزءاً من العبء.وبالفعل تنتظر سندات اليورو المضمونة بشكل مشترك من يستخدمها كأداة لتبادلية الديون. وإذا تبين أن دولة ما غير قادرة على خدمة مثل هذه السندات، فإن البلدان الأعضاء الأخرى لن تجد خياراً سوى تولي الأمر بالنيابة عنها.خلال عقود الولايات المتحدة المبكرة، كانت تبادلية الديون تثير رغبة ملحة لا تقاوم للاقتراض. وبعد أن قرر ألكسندر هاميلتون، أول وزير خارجية للبلاد، تطبيق مبدأ تبادلية الديون على ديون الحرب الثورية في عام 1791 من خلال تحويلها إلى ديون فيدرالية، انطلقت الولايات في نوبة من الانغماس في الاقتراض لتمويل مشاريع البينة الأساسية. فتم حفر القنوات بتكاليف ضخمة- فقط لكي تصبح فكرة عتيقة في غضون فترة وجيزة بعد تشغيل خطوط السكك الحديدية.ثم تبين أن الطفرة الاقتصادية التي بشر بها الاقتراض لم تكن سوى فقاعة ائتمان انفجرت في نهاية المطاف (بموجة الذعر المالي في عام 1837). وفي أوائل أربعينيات القرن التاسع عشر كانت ثماني ولايات من أصل ست وعشرين ولاية آنذاك (إلى جانب إقليم فلوريدا) قد أفلست نتيجة لذلك، في حين تأرجحت ولايات عديدة أخرى على حافة الهاوية.ولكن المزيد من التبادلية لم يعد بالخيار الوارد. ففي نهاية المطاف، لم تسفر التبادلية عن شيء غير الفتنة والعداوة المتنامية. وتسممت الأجواء بسبب مسألة الديون المتفاقمة في الولايات المتحدة لسنوات بعد ذلك، فساهمت في تأجيج التوترات الطائفية التي كانت مشتعلة بالفعل بسبب الصراع بين الشمال والجنوب حول الرِق.ينبغي لنا إذن أن نكون شاكرين لنعمة أسقف الديون الصارمة، لأنها من الممكن أن تساعد في وأد الكارثة في مهدها- حتى لو كان الاصطدام بهذه الأسقف سبباً في إصابة الساسة برضوض طفيفة.Hans -Werner Sinn* أستاذ الاقتصاد والموارد المالية العامة في جامعة ميونيخ ورئيس معهد البحوث الاقتصادية (آيفو).«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
حكومات «إعادة التوزيع»... ونعمة أسقف الديون الصارمة
26-10-2013