منذ مقولة الشهرستاني في "الملل والنحل" قبل ألف عام (إن أول سيف سل في الإسلام، سل من أجل الخلافة) وإلى اليوم، لم يتمكن المسلمون من التوصل إلى اتفاق شامل لتصوراتهم حول "الدولة الإسلامية" المنشودة، التي تجمع بين مقومات الدولة المدنية وتعتمد مفهوم المواطنة المتساوية والشاملة لجميع أبناء الوطن دون أي فروقات أو تمايزات، وفي الوقت ذاته ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهدي السماء وثوابت الدين وقيمه السامية، في تصوري أن هذه الضبابية في التصورات السياسية للدولة المنشودة، مردها بشكل جوهري إلى حصول نوع من الخلق والتداخل بين قضيتين رئيستين، طبقاً للمفكر الإسلامي الكبير والفقيه الدستوري المعروف د. أحمد كمال أبو المجد:

Ad

الأول: قضية "سند الشرعية" للسلطة الحاكمة في المجتمع الإسلامي. الثاني: قضية "النظام القانوني الشرعي" الذي يخضع له المجتمع الإسلامي، في ما يتعلق بالأولى: فنحن نعلم أن أساس خضوع الناس للسلطة مر بمراحل عديدة، إذ عرفت البشرية تجارب وأنماط حكم عديدة، بدءاً من "المصدر الإلهي للسلطة" ونظرياته المتعددة، وصولاً إلى (المصدر البشري للسلطة) ونظرياته المختلفة، وفيما يتعلق بالقضية الثانية: فإن النظام القانوني الذي يخضع له المجتمع المسلم، نظام تشريعي يتقيد بالثوابت الدينية، بمعنى إن أي تشريع يخالف هذه الثوابت، يعد باطلاً في كل الدساتير العربية التي تنص على أن مبادئ الشريعة هي المصدر أو مصدر رئيسي للتشريع، الحاصل أنه حصل خلط كبير لدى عدد من الكتاب في الدراسات الإسلامية والعديد من الحركات الأساسية ذات الطابع الإسلامي، بين "سند الشرعية" و( طبيعة النظام القانوني) وفي تصوري أن الفرز والتمييز بين القضيتين، يحل اشكالات كثيرة حول طبيعة الدولة الإسلامية، وهل هي مدنية أو دينية؟ يجب –أولاً – تأكيد أن الدولة الإسلامية، دولة مدنية بامتياز، بمعنى أن السند الشرعي للسلطة الحاكمة هو (رضاء الشعب) وهو مصدر الشرعية للسلطة السياسية في المجتمع الإسلامي، ولا أدل مما حصل في أول اجتماع لاختيار الخليفة في (السقيفة) حيث لم يثبت –على الأقل عند أهل السنة – أن أحداً ادعى أنه معين أو مرشح من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم للحكم، ولقد حسم الامام محمد عبده هذه القضية في كتابه الشهير (الإسلام والنصرانية) عندما قال (ليس في الإسلام ما يسمى عند القوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه، ولا يجوز الخلط بين الخليفة عند المسلمين وما يسميه الإفرنج بـ- ثيوقراطي- فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة وله في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة بل بمقتضى حق الإيمان) صحيح أن الإمامة عند الشيعة تثبت بالنص عن النبي صلى الله عليه وسلم لا باختيار الناس، لكن الرأي الواضح والجلي الذي عليه اجماع أهل السنة والجماعة أن الإمامة تثبت بالاختيار لا بالنص، وثانياً: الحاكم المسلم ليس مقدساً ولا معصوماً وليست له سلطة دينية على الناس، وإن كانت له اختصاصات وواجبات دينية، لكنه في النهاية، فرد من المسلمين، وثقوا بكفاءته فبايعوه، فسلطانه مستمد من بيعتهم ورضاهم، نعم حصل في فترات تاريخية، أن ادعى بعض الخلفاء استمدادهم السلطة من الله تعالى، مثلما ورد عن أبي جعفر المنصور (أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه) ومرويات صرحت بأن (السلطان ظل الله في الأرض) ولكن هذه المرويات غير موثقة، فضلاً عن أن هذه الأقوال لا حجة شرعية لها، صحيح أن هناك كتاباً ومفكرين بارزين في المجال الإسلامي، ذهبوا إلى أن (السيادة) في الدولة الإسلامية، ليست للشعب، وإنما هي لله تعالى وحده، تحت مسمى (الحاكمية) استدلالاً بقوله تعالى (إن الحكم إلا لله) وقوله (ألا له الحكم والأمر) كما احتج الخوارج من قبل على سلطة الإمام علي رضي الله عنه بمقوله (لا حكم إلا لله) ولكن هؤلاء جميعاً إنما وقعوا في الخلط الذي نتحدث عنه ونحذر منه، بين (الشرعية) و(التشريع) بمعنى أن (الحاكمية) لا علاقة لها بالشرعية، وحق الناس في اختيار من تراه أهلاً للحكم، وإنما هي تتعلق بالتشريع، و(حاكمية التشريع) تعني عدم صدور تشريع من المجالس التشريعية، مخالف لثوابت الشريعة المتفق عليها، لكن (الحاكمية) لا تسلب عن الأمة سلطتها في التشري، فالإسلام أعطى الأمة حق التشريع في الشان المجتمعي: سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وإعلامياً وعلاقات دولية (أنتم أعلم بأمور دنياكم) بشرط واحد فقط هو (عدم خروج هذه التشريعات على الثوابت الدينية) وهذا هو الاختلاف الأساسي بين الدولة المدنية في المجتمعات الإسلامية عن الدولة المدنية في المجتمعات غير الإسلامية، كما أن سند الشرعية المرتبط برضاء المحكومين، هو الذي يفرق الدولة الإسلامية عن الدولة الدينية، الآن بالنسبة للنظام التشريعي الحاكم للمجتمع الإسلامي، وكون (أصوله سماوية) وكون الله تعالى هو صاحب (السيادة الحقيقية) وهو (المشرع الحقيقي) فهذا لا يعني، نفي سلطة الأمة في التشريع وفي اختيار الحاكم، فالله جل وعلا، سيادته ومشيئته عامة وشاملة لكل ما في الوجود، وليس الأمر مقصوراً على التشريع فحسب، كما أن إرادته تعالى، فوق كل الإرادات، لكنها لا تلغي الإرادات والاختيارات البشرية، ومن ناحية أخرى: فإن (سماوية الأصول) والمتمثلة في القيم الأخلاقية ومبادئ الحكم- الشورى، العدالة، المساواة، الحرية، المسؤولية، والمجسدة في أحكام معينة في الشؤون المدنية و الجنائية والأحوال الشخصية، لا تعني أن الدولة الإسلامية، دولة دينية، لأن التشريع، عمل بشري يعتمد الافهام البشرية، والاجتهاد القائم على العقل والمصلحة والنظر في اطار (المبادئ الكلية للشريعة، وهي أحكام قاطعة الثبوت والدلالة، وإذا كان لعلمائنا الأجلاء، رأيهم الموزون والمقدر في هذا الأمر، وفيما يعد من الثوابت أو المتغيرات، فإن المجالس التشريعية، هي في النهاية التي تملك حق التشريع استرشاداً برأي المؤسسات والهيئات الدينية وكبار علماء المجتمع، وإذا رجعنا إلى وثيقة الأزهر الشريف – عقب ثورة 25 يناير في مصر- في تأكيدها (شرعية) الدولة المدنية الحديثة، واعتمادها مفهوم (المواطنة) أساساً لها، وتوضيحها أن المقصود من المبادئ الكلية للشريعة هي (الثوابت الدينية التي لا خلاف عليها) لا الاجتهادات الفقهية المختلفة ولا المذاهب الفقهية المعتمدة، فإنها في الحقيقة، تحسم الجدل بكل وضوح حول علاقة الدين بالدولة.

*كاتب قطري