مقارنة بالانتخابات الرئاسية التي جرت في مصر عام 2012، ستكون الانتخابات المنتظر إجراؤها في هذا الشهر أقل سخونة بمراحل، وبينما كانت الانتخابات السابقة تنطوي على قدر كبير من شراسة المنافسة، وصعوبة توقع النتائج، فإن نتائج الانتخابات المنتظرة تبدو شبه محسومة، وحدة المنافسة فيها تراوح بين متوسطة ومنخفضة.

Ad

لقد تنافس في انتخابات 2012 محمد مرسي الذي يمثل جماعة "الإخوان" صاحبة النفوذ الكبير في المجتمعات التقليدية وأوساط البسطاء والمهمشين، وأحمد شفيق الذي يجسد "دولة مبارك"، بما كان لها وما كان عليها، وعمرو موسى الذي يمثل رؤية متباينة مع تلك الدولة، وإن كان معبراً عن الجزء الحيوي في مؤسساتها، وعبدالمنعم أبو الفتوح الذي أقنع مؤيديه بأنه "الليبرالي ذو المرجعية الإسلامية"، المنشق عن تنظيم "الإخوان" المتكلس والمسجون في الأيديولوجيا، وأخيراً حمدين صباحي اليساري القومي، ابن المشروع الناصري، وصاحب التاريخ النضالي، المنطلق من الإيمان بالعدالة الاجتماعية والانحياز للفقراء.

حينما يتم استعراض المرشحين الخمسة الذين نافسوا في انتخابات 2012، وما كانوا يمثلونه، سيمكن على الفور تحليل البيئة السياسية التي استوعبتهم، وأمنت المنافسة لهم؛ وهي بيئة لم تكن تتسم بالتجانس، ولم تحظ بحد أدنى من التوافق الوطني.

ولذلك؛ فقد خرج من الجولة الأولى حمدين صباحي، الذي كان يجسد أهم ملامح ثورة يناير: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"، والذي كان مشروعه السياسي يعكس أكبر قدر من الاهتمام بقاعدتها الاجتماعية، وكان برنامجه يولي أهمية كبيرة لحل مشكلة الشباب والفئات الأكثر فقراً وحاجة في مجتمع اتسعت الفوارق بين طبقاته اتساعاً كبيراً في العقد الأخير من عهد مبارك.

كما خرج عبدالمنعم أبو الفتوح، الذي كان قد أوحى بقدرته على التوفيق بين الليبرالية والمرجعية الإسلامية، والذي كان يمثل جسراً يوفق بين هؤلاء الذين أرادوا حرية وحداثة من جانب، وبين أولئك الذين ظلوا متمسكين بضرورة التكيف مع الخصوصية "الحضارية" والأبعاد السياسية والاجتماعية للمنظور الإسلامي.

وخرج أيضاً عمرو موسى، الذي كان يمكن أن يمنح البلد فرصة لالتقاط الأنفاس، وتهيئة الأجواء لعملية انتقال ديمقراطي أكثر نجاعة وأقل تكاليف، عبر شخصيته المخلصة للدولة بمفهومها البيروقراطي من جانب، والقادرة على القيادة والإقناع من جانب آخر، دون أن ننسى بالطبع باعه الطويل في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية.

ولم يبق في المنافسة النهائية سوى محمد مرسي الذي يمثل خواء شخصيا، وصيغة أيديولوجية مغلقة ومأزومة كما ظهر لاحقاً، وأحمد شفيق الذي يعكس أسوأ ما تبقى من دولة مبارك: بيروقراطية حرفية، بخلفية عسكرية، ومصالح مالية ليست فوق مستوى الشبهات.

كان المجتمع مأزوماً ومنقسماً، وكانت الأيديولوجيا عامل انقسام تنكسر عليه التوافقات ومحاولات الترميم والاستيعاب.

وقد عكست النتيجة النهائية هذا الانقسام، حيث فاز مرسي بأغلبية ضئيلة، بعد تشكيك واسع في كونه الفائز، إثر الكشف عن عملية تزوير منهجية في "المطابع الأميرية"، التي طبعت بعض بطاقات التصويت المزورة لمرشح تنظيم "الإخوان".

حينما وصل مرسي وشفيق إلى المرحلة الأخيرة في المنافسة على موقع رئيس الجمهورية في مصر، كان المجتمع مقسوماً بين "الإسلاموية السياسية"، وبين "الدولة الوطنية"، كما كان موزعاً بين "مستقبل مجهول" تطرحه جماعة مثيرة للجدل، تتسم بالسرية، وتعمل تحت ستار من الغموض، ولها صلات دولية معظمها غير معروف، وبين استعادة دولة مبارك التي عرفت الاستقرار والأمن والنمو الدفتري المطرد في سنواتها الخمس الأخيرة، دون أن تعرف العدل أو الحرية أو الكفاية ودون أن تمنح مواطنيها الكرامة أو الأمل في المستقبل.

على أي حال، فقد انعكس هذا الانقسام على السنة التي أمضاها مرسي رئيساً، إذ لم يهنأ يوماً في منصبه، لأن هذا الانقسام أخذ في الاتساع، حتى ابتلعه وابتلع جماعته، بعدما أخفقا في فهم التغيرات والتعاطي معها.

الوضع الآن يبدو مختلفاً تماماً.

يواصل تنظيم "الإخوان" سياساته الاحتجاجية، ويواصل أنصاره أعمالهم الإرهابية، ويواصل داعموه الإقليميون والدوليون مساعدته لإبقاء قضيته حية والضغط على الدولة المصرية لإضعافها أمامه، لكن المجتمع المصري لا يبدو مقسوماً كما كان مقسوماً عشية الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2012، والتي أتت بمرسي إلى الرئاسة.

يفلح عادة تنظيم "الإخوان" في إخراج عدد من التظاهرات أسبوعياً؛ وهي التظاهرات التي تقوم قناة "الجزيرة" بتضخيمها وترويجها وتسويقها على أوسع نطاق، كما تقوم الدول الإقليمية والأجنبية الداعمة للتنظيم بمساندتها وتسليط الضوء عليها، كما يفلح بعض مناصريه أو أتباعه في القيام بعملية إرهابية أو أكثر، تفضي إلى قتل عدد متباين من المصريين سواء كانوا مدنيين أو من رجال الجيش والشرطة، لكن كل هذا لا يعني انقساماً أو تبايناً وطنياً.

لم تكن "خريطة طريق المستقبل" التي تم إعلانها يوم 3 يوليو الماضي عملاً دستورياً، كما لم يتم تبنيها بعد استفتاء شعبي، لكنها الوثيقة الأكثر محورية في حياة المصريين الآن، ولا يوجد ما يشكك في قدرتها على الاستدامة والتأثير وإلزام الأطراف المعنية بتنفيذها على أفضل نحو ممكن.

لقد أصبح لدى المصريين دستور أيضاً، وهو دستور غير هذا الذي أقره "الإخوان" في ليلة واحدة، في غيبة كل أتباع التيارات غير "الإسلامية"، والذي كان يؤسس لدولة "ولاية فقيه سنية".

يخوض السيسي وصباحي الانتخابات المنتظرة دون أن يكون هناك انقسام شعبي في مصر، مع الأخذ في الاعتبار بأن نشاط تنظيم "الإخوان" المعارض مستمر، ونشاط أتباعه أو أنصاره الإرهابيين مؤثر.

يبني السيسي تمركزه في الوسط الشعبي المصري كمرشح رئاسي على كونه مرشحاً وطنياً، من أبناء الدولة، ومن قلب أهم مؤسساتها، ولديه قدرة مبرهنة على الفعل المخطط المدروس، ولديه معرفة عميقة بالتحديات الرئيسة التي تواجه الدولة، ومعرفة بالطرق السليمة لمواجهتها. والأهم من ذلك، أنه قادر على استعادة الدولة نفسها، وضبط مؤسساتها، وإحلال الأمن، ومواجهة التحدي الإرهابي، وتمثيل مصر، وتحقيق التوازن في علاقاتها الدولية على قاعدة المصلحة الوطنية العليا.

ويبني صباحي شعبيته على أساس كونه مرشحاً ثورياً، له تاريخ نضالي مشرق، وهو إن لم يكن جزءاً من الدولة، فإنه ابنها بالمعنى الثقافي والسياسي، وربما يكون أكثر إخلاصاً لها، كون عبدالناصر هو صاحب التأسيس الأخير لها، كما أن صباحي يعد المرشح الأكثر تعبيراً عن ملامح ثورة يناير ومطالبها، خصوصاً ما يتعلق منها بـ"العيش، والعدالة الاجتماعية".

سيبدو من هذا العرض أن ثمة تنافساً بين السيسي وصباحي، لكنه لا يعكس انقساماً أو تبايناً في المنطلقات الأساسية لكليهما، ولا يعكس بالتالي تبايناً واسعاً بين مؤيدي كل  منهما.

ستكون حدة المنافسة منخفضة إذاً، لأن المنطلقات متقاربة، وسيجد كثيرون أنفسهم محتارين بين المرشحين، وسيغير بعضهم رأيه أمام لجنة الانتخاب، وسيندم آخرون لأنهم اختاروا هذا بينما كان يجب أن يختاروا ذاك؛ وهي أمور كلها لم تحدث، ولم تكن لتحدث، أثناء تنافس مرسي مع شفيق.

سيذهب إلى تلك الانتخابات مؤيدو 30 يونيو؛ وهؤلاء يمكن أن يعطوا السيسي أو صباحي أصواتهم دون أن يخونوا مبادئهم، وهو أمر يحد جداً من سخونة المنافسة.

أمر آخر سيجعل نتائج تلك الانتخابات شبه محسومة؛ إذ يقابل السيسي توقعات الجمهور الراهنة بدرجة أكبر، ويمثل تلبية للطلب الوطني العام المتعلق باستعادة الدولة وتحقيق الأمن والاستقرار ومواجهة الإرهاب؛ ولهذه الأسباب فإن فوزه يبدو شبه مضمون.

* كاتب مصري