كتاب {صالح بن عبد القدوس... حياته، بيئته، شعره} دراسة عن حياة صالح بن عبد القدوس الشاعر الحكيم الذي عاصر النصف الأخير من الدولة الأموية، وأوائل الدولة العباسية، وتمرّس في مشاهداته عنهما. هذا الرجل الذي اشتهر بالوعظ، واتسم بالحكمة، وعُرف بالشعر، واتهم بالزندقة، وقتل وصلب أياماً على الجسر في بغداد. فقد عاش صالح بن عبد القدوس ومات قتلاً، ولم يحتفظ لنا التاريخ بشيء من سيرته وحياته، إلا ما يخص قتله وكيفيته، وهذا أمر يتبجح به الحكام، وإلا لما كان يُذكر حتى اسمه.

Ad

ولد عبد القدوس في الربع الأخير من القرن الأول الهجري. ونشأ وترعرع في مدينة البصرة، حيث لازم الحلقات العلمية والأدبية، وتفتح ذهنه في مناظراتها، حتى تفجرت مواهبه، فجلس في مسجد البصرة الذي كان يضم آنذاك جهابذة الأدب وفطاحل العلم. وانتقل الشاعر إلى بغداد في بدايات العصر العباسي، إذ كان يسكن في بغداد أيام أبي جعفر المنصور. وكانت له يد في إغراء أبي مسلم الخراساني، وجلبه إلى حضرة المنصور. وهذا ما يظهر أن صالح بن عبد القدوس كان من المقربين من أبي جعفر، حتى يقوم بهذه المهمة الخطيرة بإيعاز منه.

يقول فيه الدكتور حسن السندوبي: {هو صالح بن عبد القدوس الشاعر المتكلم البليغ، كان يذهب في شعره مذهب الحكمة، والظاهر أنه قرأ كتب الأوائل، ومازجت نفسه ما فيها من الفكر والآراء الفلسفية، فكانت تظهر على كلامه، ولذلك رماه خصومه بالزندقة، وبأنه يقول بمذهب الثنوية القائل بمبدأ النور والظلمة. وُشي به إلى الرشيد فقتله ظلماً على أنه زنديق والصحيح أنه مستقيم ومات على توبة}.

اتهامه بالزندقة ومقتله

كانت تهمة الزندقة في العصر العباسي ذريعة سهلة يتذرع بها البعض للتخلص من أعدائه ومناوئيه وشانئيه، فقد قتل عبدالله بن المقفع وبشار بن برد بهذه التهمة. ولقي صالح بن عبد القدوس المصير نفسه بالتهمة ذاتها، وهو شيخ كبير، أيام الخليفة المهدي. فقد تم جلبه من دمشق، التي اتخذها مسكناً ليبتعد عن أعدائه الذين يريدون به السوء. ومن الروايات حول كيفية قتله، يذكر الترجمان أن أربعة غلمان ترابعوه، وضربه المهدي بالسيف فجعله نصفين، وصلب كل نصف منه، وعلق كل نصف منه على أحد جوانب جسر في بغداد.

مؤلفاته

كانت لصالح كتب وديوان شعر لم يبق منها أي أثر سوى أبيات متناثرة في طيات الكتب يؤتى بها على سبيل الشاهد أو المثال، وفي الغالب لا يذكر اسم قائلها. ويقال إنه كان له كتاب اسمه {الشكوك}، وله كتاب فيه كلام حسن في الحكمة. وأما شعره فقد جمع منه عباس الترجمان في هذا الكتاب حوالى 400 بيت فيما بعض المصادر يردد أن له أكثر من ألفي بيت شعر. شعره هذا الذي تميز بسلاسة الألفاظ وجزالة التركيب ووضوح المعنى، لا يهتم بالتزويق اللفظي والمحسنات البديعية، كاهتمامه بدقة التعبير عن المعنى الذي يختلج في صدره، فجل مجهوده أن يعكس انطباعاته عن الحياة وما فيها بأمانة ودقة كما يهجسها هو، وقد تخبئ فيه بعض المحسنات عفواً. والذي يقرأ شعره بدقة يدرك بوضوح أنه لم يتكلف بقول الشعر، وإنما يقوله على البديهة. وقد وُصف بحكيم الشعر، وساحر اللفظ وبليغ القلم. وقد كان الطائي يشبه في البديع بصالح بن عبد القدوس في الأمثال.

 والواقع أن شعر صالح كان شعر المجتمع والأخلاق الاجتماعية، فهو شعر مرصع بالحكم، مدعم بالأمثال، يعكس آراء الشاعر، وما ارتضاه من آراء الآخرين، وما يحرص عليه من تهذيب المجتمع وإصلاحه، وفيه من تعاليم القرآن والحديث الشيء الكثير. ويخلو من ذكر الخمر والغزل والنسيب والتشبيب والمديح والهجاء.

من شعره الذي يبين عقيدته بالله تعالى:

لا تيأسن من انفراج شديدةٍ          قد تنجلي الغمرات وهي شدائد

كم كربة أقسمت ألا تنقضي        زالت وفرجها الجليل الواحد

وقال:

فوحق من سمك السماء بقدرة      والأرض صير للعباد مهادا

إن المصر على الذنوب لهالك       صدقت قولي أو أردت عنادا

فهذه الأبيات وغيرها الكثير تبين عقيدة عبد القدوس، المتهم بالزندقة، فالكثير من أشعاره يفيض بالإيمان والمفاهيم الإسلامية. واستناداً إلى أقواله كان الشاعر يعتقد بأن الله هو الجليل الواحد الرحمن، خلق السماء وأمسكها بقدرته، وخلق الأرض وصيرها مهاداً لعباده، وأنه هو الرازق.

كذلك تتوضح عقيدته في الحساب والمعاد في ثنايا شعره:

دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب

واخش مناقشة الحساب فإنه              لا بد يحصى وما جنيت ويكتب

لم ينسه الملكان حين نسيته               بل أثبتاه وأنت لاه تلعب

وقال أيضاً:

كل إلى الغاية محثوث       والمرء موروث ومبعوث

فهذه الأبيات وغيرها تثبت أنه كان مؤمناً بيوم الحساب والبعث، ويأمر بالتوبة والبكاء من الذنوب، وأن الله شوق عباده إلى الجنة، وأن المرء يموت ويورث ثم يبعث من جديد.

وهذه بعض النماذج من شعر صالح بن عبد القدوس:

لا تنطقن بمقالة في مجلس            تخشى عواقبها وكن ذا مصدق

واحفظ لسانك أن تقول فتبتلى        إن البلاء موكل بالنطق

إني لأعرض عن أشياء أسمعها        حتى يظن رجال أن بي حمقاً

أخشى جواب سفيه لا حياء له          فسلٍ يظن رجال أنه صدقا

من يخرك بشتم عن أخ لك        فهو الشاتم لا من شتمك

ذاك شيء لم يواجهك به           إنما اللوم على من أعلمك

كيف لم ينصرك إن كان أخاً      ذا حفاظ عند من قد ظلمك