ترتكز أغلب تحليلات المهتمين بشؤون وقضايا التطرف الديني الإسلامي على السياقين التاريخي والسياسي في المنطقة كمدخل لفهم ظاهرة تنامي ما يسمى بـ"الصحوة" على امتداد العقود الأربعة الماضية. ورغم أهمية هذه الآراء، فإنها تظل بمنأى عن التوصل إلى فهم شمولي يبين الطبيعة الجدلية التي أدت إلى ظهور الصحوة. قد يكون مفيداً في هذا السياق النظر إلى ما وراء الأحداث السياسية والتاريخية في المنطقة والتي تزامنت مع حركات الصحوة الإسلامية، والبحث عن أجوبة أكثر عمقاً من خلال دراسة تطور الفكر الديني في مجتمعات أخرى غير إسلامية.
إحدى القراءات التي يمكن أن تفي بهذا الغرض هو كتاب "موت الإله الخرافي" لباحث اللاهوت الأميركي جيم ماريون الذي يدور حول تطور الفكر المسيحي الكاثوليكي ومستقبله. ينتمي الكاتب الى مدرسة حديثة تؤمن بنظرية التطور الروحي (Evolutionary Spirituality) التي تذهب إلى القول إن الإنسان هو مكون، وتوأم في آن واحد، لمنظومة كونية دائمة التطور، وأن الحس الروحي والديني للأفراد والشعوب يرتقي بشكل مستمر ومتسارع مصاحباً بذلك التطور في مقدراتهم العقلية والبيولوجية والفسيولوجية.يستعرض الكاتب أهم ملامح التغيير التي طرأت على الفكر الديني المسيحي، خصوصاً منذ عصر التنوير الأوروبي، حيث شهدت العقيدة تحولاً من منظور يغلب عليه الانغلاق العرقي (Ethnocentricity) إلى طابع الأممية (Universalism)الذي يتساوى بموجبه الجميع بمحبة الخالق، والذي يترتب عليه أيضاً التسامح تجاه الثقافات والأديان الأخرى وبغض النظر عن مدى مواءمتها للفكر المسيحي والحضارة الغربية. كما شهدت بواعث التدين في العالم المسيحي تحولاً من التركيز على الفردية والمادية والأنانية الضيقة إلى الروحانية والكونية.استنادا إلى هذا الإطار، يستعرض ماريون تطور الكنيسة الكاثوليكية على مر العصور مبيناً مناهضتها للتغيير وجمودها مقارنة بوتيرة التطور التي حدثت في الفكر المسيحي بشكل عام منذ بداية الثورة الصناعية. ويختتم الباحث كتابه بدعوة الكنيسة الكاثوليكية إلى تدارك الموقف وتبني فكر حداثي عقلاني موائم لمستوى الحس الروحي للإنسان الغربي المعاصر، وإلا فإنها ستشهد استمرار تراجع أتباعها وتوجههم نحو مذاهب وعقائد أخرى أو تحولهم إلى ملحدين ومتشككين.ما تجدر الإشارة إليه هو استعرض الكاتب لتطور معالم التفكير الديني وتعريف ماهية الإله في المراحل المختلفة للنمو الحضاري للبشرية وتشبيه ذلك بتطور الإدراك الحسي والروحي لدى الفرد، بدءاً من مرحلة الطفولة المبكرة التي يهمين فيها الخيال والإيمان بالخوارق والسحر ومرراً بما قبل سن المراهقة الذي يستقبل فيه الفرد القيم والمفاهيم التقليدية والأساطير دون جدل، وانتهاء بمراحل النضوج اللاحقة التي تمتاز بالعقلانية والرؤية والقدرة الذاتية للتمييز بين الخطأ والصواب. وما هو مثير أيضاً تأكيده لمبدأ حتمية تناغم وتلازم الوعي الديني أو الحس الروحي للأفراد والشعوب مع مستوى الرقي الحضاري.وفي هذا الصدد يعتقد الكاتب أن العقيدة المسيحية قد تمحورت وفقدت الكثير من جوهر تعاليمها وروحانيتها عقب موت المسيح عليه السلام بسبب تدني مستوى الرقي الحضاري السائد آنذاك، وخلال القرون الخمسة عشر التالية ظهرت بعض الحركات والمذاهب التصحيحية التي حاولت إعادة فهم المسيحية كما يجب أن تكون، ولكنها لم تلق قبولاً واسعا وأُجهضت جميعاً بفضل جهود الكنيسة الكاثوليكية. ولم يحدث أي تبدل جذري في الفكر المسيحي حتى ما يقارب عام 1600 بعد الميلاد عندما قدم عصر التنوير الأوروبي ولاقت أفكار المجددين أمثال القس مارتن لوثر قبولاً شعبياً عارماً.فكرة الكتاب الأساسية تدور حول نظرية تناغم الإدراك الروحي مع التطور البيولوجي للجنس البشري وبالتالي حتمية ارتقاء هذا الإدراك على مر الزمان. ما قد يعنيه ذلك بخصوص تنامي ظاهرة التطرف الإسلامية في عالم اليوم هو أنها لم تأتِ نتيجة مصادفات تاريخية وسياسية محضة لكنها تمثل ردة فعل طبيعية متوقعة لمجتمع يرفض محاولات التنوير والحداثة بجميع أشكالها. ولا يمكن في هذا الصدد إغفال ذكر المفردات التبريرية لمفكري الصحوة الإسلامية، مثل الشيخ محمد عبدالوهاب وغيره، مثل "تنقية العقيدة من الشوائب"، و"العودة إلى العقيدة الصافية والدين الخالص" و"مواجهة محاولات تمييع الدين"، والتي هي في جوهرها ردة فعل تجاه نشوء حركات التنوير الديني، كما حدث بداية من ظهور فكر المعتزلة في عهد الخليفة العباسي المأمون وانتهاء بمدارس التنوير المعاصرة بريادة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما.ما قد يعنيه ذلك أيضا أمران: أولهما، استنتاج متفائل مفاده أن ظاهرة التطرف الإسلامي اليوم هي حدث عابر، وأن الفكر الديني التنويرى في العالم الإسلامي سيأتي لا محالة يوماً ما، قصر الزمان أو طال، كما هي الحال في جميع الأديان والعقائد. أما الاستنتاج الآخر، فهو متشائم قاتم يفسر التنامي الواسع لما يسمى بـ"الصحوة الإسلامية" في عالم اليوم، وبما يمثله من تزمت وعودة نحو الانغلاق والإحساس بالفوقية، كانعكاس للتدني الشديد للإدراك الحسي والوعي الحضاري للشعوب وللأفراد في هذا الجزء من العالم.
مقالات
صحوة دينية أم ردة فكرية؟
19-04-2014