{عبدالله العروي من التاريخ إلى الحب} نص حوار مطول وممتع مع المفكر عبدالله العروي. ورغم أنه كان تلقائياً وشفوياً، فهو يتسم بدقة النظر وشدة الغوص، ويقدم خلاصة التجارب الروائية ولبابها.

Ad

 يتفرع الحوار إلى ثلاثة محاور تتشابك مواضيعها أحياناً. انكب المحور الأول على معالجة الوضع الاعتباري للرواية العالمية (أعمال دستويفسكي وتولستوي، وهمنغواي، وإيكو...) وبيان الفسحة التي يتمتع بها الروائي للتعبير عن أفكاره ومشاعره بحرية وطلاقة، وإبراز الدور الي يمكن أن تؤديه الرواية في المجتمع العصري المفتتن بالأفلام والمسلسلات التلفزيونية. وذلك لاستجلاء ما يضمن للعمل الفني خلوده، والإحاطة ببعض الشروط التي تنضجه.

يعيد العروي في المحور الثاني بعض الأحكام التي أصدرها في فصل {العرب والتعبير عن الذات} من {الأيديولوجية العربية المعاصرة}، وذلك إثر تغير الأحداث، وظهور حساسية نقدية جديدة وذائقة روائية مغايرة. لكن ما يظل جوهرياً في رؤيته الثاقبة ونسقه الفكري المحكم، هو أن الرواية العربية، باستثناء الأعمال العامة المتميزة، ما زالت مهتمة بالموصوف وغير منشغلة بالموضوع الذي يمكن أن يجعلها تنفذ إلى جوهر الأشياء، وتقتنص المشاهد والوقائع النادرة، وتنصت إلى رنات الواقع ونبضاته، كذلك لم تتحرر من الطابع التجزيئي والنفس القصير اللذين يسمان القصة القصيرة.

التجريب

يسلط العروي في المحور الثالث الأضواء على تجربته الإبداعية (تصوره للتجريب في أعماله الروائية، وبحثة عن تكفل القبض على النغمة الناقصة أو الرنة الخاصة المتمثلة في تشخيص الإخفاق الفردي والجماعي والاستلذاذ به فنياً) والنقدية (تقييمه للمارسة النقدية الجديدة، وتصوره للرواية الناضجة التي تمتح موادها التخييلية من زمن رحب، ومن فضاء مستقطب للاتصالات المكثفة والمصادفات المختلفة والمشاريع الاجتماعية والفردية المتنوعة، واشتغاله بالموضوع الهارب المنفلت الذي بإمكانه أن يشخص جوانب ومظاهر معينة من العقدة التاريخية والنفسية للشعب التونسي).

محمد برادة يلفت إلى أن هذا الحوار يغري بالاطلاع عليه لأنه يحتوي على معلومات دقيقة حول التجربة الروائية، ويستدرك ما بقي مغفياً في الأيديولوجيا العربية المعاصرة، ويبين أن العمل الروائي ليس تنميق اللفظ وتزويق الغرض وتلهية المشتاق، بل هو جهد فكري وفني وبحث مضنٍ عن الموضوع الضائع (التعبير بفنية عن العقد الموروثة المنغرسة في اللاشعور الجماعي). لا يمكن إدراك هذا الموضوع إلا بعد تطويع الأشكال السردية حتى تصبح قادرة على عكس الأغراض الملائمة، واستيعاب المشاعر الحقيقية، أي المستعارة من بروست وهمنغواي وكونراد (بحيث لا نعاين إلا تبدل الأسماء {علي} محل {ميشال} والقاهرة أو الدار البيضاء عوض باريس)، فكلما كان الاسترسال في الكلام يتبين أن الموضوع، في الوضع الراهن، هو ضياعه، وأن ما يشد انتباه معظم الروائيين هو الموصوف، أي ما تلتقطه عادة عدسة الآلة المصورة من مشاهد ووضعيات، وما تراه العيون يومياً من ظواهر اجتماعية وإنسانية، كذلك ما أصبح تسجيلاً مجرداً لتصاريف الحياة وقضايا البشر من دون النفاذ إلى ما يتركه التاريخ في النفوس، وإلى البرامج الموروثة في الأذهان.

فكر كبير

قراءة حوار {من التاريخ إلى الحب} فرصة للإنصات إلى مفكر عربي كبير برهن على نفاد البصيرة، وبعد النظر والجرأة في النقد، والتحليل العقلاني والتاريخي. وإذا كانت عطاءاته في مجال الفكر والتاريخ والتحليل السياسي لا تحتاج إلى تعريف، فإن إسهامه في الإبداع الرائي والتنظير له، يستحق أيضاً الاهتمام والمناقشة، لأن العروي ليس من المفكرين المكتفين بالانغلاق داخل حرم المصطلحات والمفاهيم والانساق، بل هو مدرك لأهمية الفن والأدب في التعبير عن وجود الإنسان وصورته في عالم اليوم. ذلك أنه مهما بلغت العلوم والعلوم الإنسانية قدرة على التحليل وإنتاج المعرفة، تبقى الحاجة ماسة إلى التعبير عن ذلك الشيء {الذي نخاف أن يضيع منا} والماثل في ثنايا النفس ومدارج الروح، ومالك الأهواء والرغائب. والأمر الآخر الذي يشير إليه الحوار، هو أننا لا نعيش بالتاريخ وحده (على أهميته)، بل ثمة ضرورة مزاوجة التاريخ والحب: الأول يوثق صلتنا بالعصر وبأوضاعنا الاجتماعية، والثاني يتخذ عواطفنا، ويهبنا المتعة واللذة من علاقتنا بالآخر والآخرين. والأفق الذي يحقق لنا التوازن والاطمئنان هو الوصل إلى تعبير إبداعي كاشف لخفايا التجارب والأحداث التي نعيشها داخل عالم تطبعه، أكثر فأكثر، البلبلة واللايقين.

حسب صاحب الحوار محمد الداهي أن أهم مميزات الحوار، أنه يقدم أفكاراً وأطروحات لا تجامل حصيلة الرواية العربية، ولا تضخم منجزاتها. وهي آراء مستندة إلى تصور مستقى من نماذج روائية عالمية وعربية أثبتت قدرتها على اجتياز الحدود، إلا أن قيمة ما يحتوي عليه الحوار مع مفكر جاد ورصين، إنما تتمثل قبل كل شيء، في تطعيم وتحريك التفكير المتصل برحلة الرواية العربية التي جاوزت المئة سنة من عمرها.

يشير الداهي إلى أن العروي ربما وجد ضالته المنشودة في التيار التاريخي الفلسفي المجدد للماركسية والساعي إلى نفض ما علق عليها من غبار الوثوقية وانحرافاتها. وضمن الاتجاه {الماركسي المنفتح} كتب محاولته التي شكلت منعطفاً في مجال صوغ أسئلة النهضة العربية من منظور مختلف الدراسات التي سبقتها. والعنصر اللافت في كتابه {الأيديولوجية العربية المعاصرة} هو انتباهه آنذاك، إلى أهمية التاريخانية وضرورة أخذها بالاعتبار عند تحليل المجتمعات التي تعاني من التأخر، مقارنة بتلك التي تحتل مكانة {متقدمة} تتيح لها أن تفرض قيمها وهيمنتها. من خلال استحضار التاريخ واعتبار دروسه، تستطيع أن تتبين موقع كل مجتمع وسيرورته الخاصة والمتواصلة، في الآن نفسه، مع صيرورة التاريخ وقوانينه.