مهما كانت التحفظات التي قيلت وسُجلت في أعقاب عرض فيلم {فرش وغطا} ضمن فعاليات الدورة الثانية لمهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية، وعلى رأسها اتهامه بأنه قاتم وغامض وكئيب، وبقية الأوصاف التي لا علاقة لها بالنقد الموضوعي، فإن الأمر المؤكد أن تجربة المخرج أحمد عبد الله في الفيلم تستدعي كثيراً من الانتباه والاهتمام، ليس لأنه مزج بين التسجيلي والروائي فحسب؛ إذ فعل هذا الأمر سابقاً في فيلم {هليوبوليس}، بل لأنه استن سنة جديدة، وكرس نهجاً غير مسبوق، في ما يتعلق بتوظيف شريط الصوت في السينما المصرية، وربما العربية، التي اعتمدت طويلاً على الحوار بالشكل الذي جعلها تقع في فخ الثرثرة، وقادتنا إلى ما يمكن أن نُسميه {سينما الحدوتة}، التي أفرزت نوعاً من النقد السينمائي الذي اختار أصحابه أن يكون {لسان حال الحدوتة}!
يبدأ المخرج فيلمه بلوحة على الشاشة نوه فيها إلى {انتفاضة} الشعب المصري في يناير من العام 2011، والاعتقالات التي راح ضحيتها الآلاف، وفي ليلة مُظلمة حالكة السواد نكاد يتبين ما يجري أمامنا على الشاشة من اقتحام للسجون، والإفراج عنوة عن السجناء والمعتقلين، ومن بينهم البطل (آسر ياسين) الذي يبدأ الفيلم وينتهي من دون أن نعرف سبب الزج به في غياهب السجن. لكننا نستشعر، عبر إيماءات قليلة ومكثفة للغاية، أن لديه خبرة في إصلاح الأعطال الكهربائية، وعلى درجة الغموض نفسها نفاجأ بالبطل وهو يبذل قصارى جهده لأجل نجدة رفيقه (الوجه الجديد محمد ممدوح) الذي أصيب لحظة الاقتحام لكنه يفشل ويموت الشاب، وعلى طريقة الأفلام المصرية القديمة يوصي، قبل أن يموت، بتوصيل مظروف في داخله حفنة من المال إلى أسرته التي نكتشف أنها تعتنق الديانة المسيحية، وهي المهمة النبيلة التي يبدأها البطل فور الاطمئنان على عائلته الصغيرة المكونة من أمه (لطيفة فهمي) وشقيقته (يارا جبران) ومعها تتوالى علامات الاستفهام التي يكتفي كاتب السيناريو/ المخرج أحمد عبد الله بطرحها من دون أن يفرض على المتلقي إجابات بعينها عليها، ويترك للمتابع الربط بينها، والاهتداء إلى المفاتيح التي تمكنه من فك طلاسمها.في «فرش وغطا» اختار الكاتب/ المخرج أن يُجهل اسم البطل، مثلما تعمد التعتيم على تهمته ومهنته، لكنه جعل منه شاهداً على «الثورة» التي ظلت تطل برأسها من مشهد إلى آخر؛ من خلال الفيديو الذي يسجل اقتحام السجون، والغوغائية التي صاحبت تلك اللحظة، وتعليقات القناة الإخبارية الشهيرة على الأحداث، فضلاً عن الأجواء المتوترة التي ألقت بظلالها على البلاد من خلال اللجان الشعبية التي يقودها «البلطجية» وتفرض سطوتها على العباد بحجة حماية أمن البلاد، كذلك حملات الاعتقالات التي نوه إليها الكاتب/ المخرج بذكاء شديد، ومن دون أن يورط نفسه، عبر المشهد الذي ظهر فيه رجل يرتدي «بيريه» أحمر يُشير إلى فصيل عسكري معروف، وهو يُشرف على اعتقال جماعة من الناس على مقربة من زاوية للصلاة!بطل فيلم «فرش وغطا» هو شريط الصوت، الذي حطم غطرسة الحوار (نجم الأفلام المصرية لعقود طويلة)؛ فالصمت هو الغالب على الشريط، بدليل أن الموسيقى جاءت متأخرة وبمواصفات خاصة للغاية، وبعدها تم توظيف المؤثرات الصوتية كجزء مهم من السياق؛ كأغاني محمد منير (أقر أنا المذكور أعلاه) وحسين الجسمي (بحبك وإنتي نور عيني .. بحبك وإنتي مطلعه عيني)، والابتهالات الصوفية، والتراتيل الجنائزية. بل إن الفيلم اكتسب اسمه من ألبوم غنائي عنوانه «فرش وغطا» استمع إليه البطل عندما كان يستقل إحدى سيارات الأجرة، ومع هذا فهو «صمت الصخب» أو «صخب الصمت»، الذي قال الكثير بالصورة وحدها، وإن بالغ المخرج بعض الشيء في الوصول إلى صيغة فنية، هي الأقرب إلى سينما حركة «الدوغما» التي استهدفت التمرد على الطرائق الفنية المتبعة في السينما العالمية؛ خصوصاً «الهوليودية»، والتخلص من ميزانياتها الهائلة، والأهم التحرر من القواعد الكلاسيكية الصارمة في ما يتصل بالعناصر التي يقوم عليها الفيلم السينمائي، كالديكور والماكياج والتصوير والإضاءة. لكن الصنعة بدت واضحة في فيلم المخرج الشاب أحمد عبد الله، بالإضافة إلى المبالغة في الطموح السينمائي، بالشكل الذي أفسد متعة التواصل والاندماج، كما حدث في مشهد ضجيج الدراجة البخارية للتغطية على الحوار، ولي ذراع الدراما، والواقع، لإجبار البطل على التقليل من لغة الحوار، والاعتماد على إيماءات البطل وحدها حتى يُخيل لمن يُشاهد الفيلم أنه «أبكم»!في الأحوال كافة، لا يمكن تجاهل تجربة فيلم «فرش وغطا»، رغم نبرة التعالي و{الفذلكة» التي لازمتها، ويُحسب للمخرج الشاب اجتهاده الواضح، ونضجه الفني الملحوظ، وطموحه غير المحدود.
توابل
فجر يوم جديد: {فرش وغطا}!
31-01-2014