نشمي مهنا، شاعر وصحافي كويتي متفوق في المهنتين، له مجموعة شعرية باسم «البحر يستدرجنا للخطيئة» ومجموعة أخرى هي «الآتية كغد مألوف». معرفتي به جاءت بعد أن كتب عن روايتي الثانية «النواخذة» التي أعتبرها من أهم وأصعب ما كتبته حتى الآن، وإن كنت وقتها لم أدرك مدى صعوبتها، فقد كتبها الشغف الهادر بدلا عني، ولو أردت كتابتها الآن فلا أظن أن باستطاعتي كتابتها بهذه الطاقة اللاسعة الحارقة، في ذاك الوقت جاءت كتابة نشمي مهنا عنها في نصف صفحة من الجريدة التي كان يكتب بها، مما أسعدني وأبهجني وقتها هو تحليله وإشاراته لمواقع الجمال في الرواية خاصة في الجزئية التي أشاد بالكاميرات الثلاث التي صورتُ بها العمل من قاع البحر وفوق سطح السفينة وعلى الشاطئ. كتابته هذه نبهتني إلى التقنية التي كتبت بها الرواية من دون وعي مني وبالطريقة التي اشتغلتها بها، فشكرا له من كل قلبي.

Ad

«مجاراة المحموم في هذيانه»، هي كتابات جميلة ورصد لحالات حياتية كثيرة، وتعاريف للحب والمرأة والمدن والمشاعر التي تنتاب الشاعر في حالاته المتغيرة والمتفردة والمتأملة بعمق واستشفاف لكل ما يدور حوله، فهو الراصد المدون لكل ما يعتريه من مشاعر نحوها، كتبها في نصوص لخصت حيوات لمشاهد كثيرة، كتبها في سرد شعري متأمل في أحوال الدنيا والعباد في تجليات غائصة في همومها، سواء ما يخصه بشكل مباشر منها، أو ما يخص الآخرين ويشارك إنسانيتهم في معايشتها.

ذكريات تشكل ما يشبه سيرة تخطيطية لبوصلة مشاعر ورؤية وتفكير صاحبها، كشفت عن عمق تأملاته وإنسانية التقاطاته، وسعدت باكتشافي هذا، فمن النادر أن أجد عندنا من يتريث من هرولة الصعود ليتأمل مرور تفاصيل الحياة من حوله، وهو ما جاء في هذه الفقرة: «يحب المرء أحيانا أن يمشي مخفورا بالأسئلة لا يبحث عن إجابات، كأنما يكتفي بمحاصرتها له، أو يتمتع باستعصائها وغموضها، ودورانها حول رأسه، أو قد يرى في الصمت الذي يلي علامات الاستفهام. خير إجابة».

«ها أنت- تكش طنين أفكار تدور حول رأسك، الشريرة منها والطيبة، تمسح أرضية الذاكرة باسفنجة ظامئة».

«لذة الاستكشاف والسعي بمرأى الجديد يعصماننا من انطفاءات الوصول، وصمت الإجابات، وجثث القناعات، فللفكر عش مليء بالفراشات اللانهائية، وللأسئلة طنين محبب، فلنعتده».

تأملاته تعكس فهمه العميق لطريقة العيش في هذه الحياة، وكيف نلتقط تفاصيل عيشها حتى لا تتسرب منا، فيكتب: «ألم أقل لك مرة أن الروح حمامة مذعورة في بيت الجسد؟ فلنهدم، بمزاج رائق وفرح، حتما ستصفو الروح، وستختصر أربعة أجساد مركونة على رف الصحة والعافية والعطل».

أحيانا كثيرة لا تسمح لنا الظروف بالمعرفة الحقيقية لكينونة من نزاملهم، وتقتصر المعرفة على سطح العلاقة فقط، برغم طول سنواتها إلا أننا لم نغص في أعماقها، بسبب الظروف أو العزلة التي ننصبها حولنا خوفا من عدم فهم الآخر لنا، أو عدم فهمنا له، لكن الكتابة وحدها قادرة على كشف الأعماق الحقيقة لقيمة الكاتب الفكرية  والأدبية والإنسانية والثقافية، وإزالة الحواجز وهدم كل الأسوار التي تفصله عن قرائه ومعارفه، كتابات نشمي مهنا اختصرت السنوات التي ظننت أني أعرفه فيها، وأعادت تقديمه لي بصورته التي لا أعرفها عنه، وهي التي اخترقت فكري ووجداني بقيمتها الإنسانية والأدبية والثقافية، فهو يقول: «أجمل ما نمر بها وتمر بنا في حياتنا الغبية هي اللحظات المتقطعة من مشهد لاهث، لا نعرف أننا كنا فيه إلا بعد أن يمضي. لحظة خاطفة تخترق الأزمان والأمكنة لكنها لا تعلن عن نفسها إلا بعد أن تغادرنا، وتلوح بيدها من بعيد».

الخسارة هو أننا لا نعرف في كثير من الأحيان من حولنا حتى يمضي المشهد ويصبح من الصعوبة استعادته. الشعر العامي الشعبي ربما كان هو السبب، ونشمي مهنا شاعر له قيمة كبيرة في هذا المجال، الذي أنا بعيدة عنه ولا يستهويني كثيرا، ولو أنه كتب كل أشعاره بشكل القصيدة الحديثة كما فعل في الديوان الأخير لحقق انتشارا عربيا واسعا، لكنه ربما فضل القصيدة العامية التي منحته شهرة كبيرة في الكويت.

نصيحة من خبرته في النساء: «من لا تحترق بغيابك فلن تضيء بحضورك. فاعشقها».