رغم توفر البيانات والتقارير والإحصائيات، فإن سلوك الحكومة لا يشير إلى جدية في اتخاذ خطوات حقيقية نحو الاتجاه الصحيح، بل إنها تتجه، في أحيان كثيرة، الاتجاه المعاكس للخطة.
لم يكن العرض الذي قدمته الحكومة الاثنين الماضي، عبر وزير المالية أنس الصالح، بشأن مناقشة الاقتصاد الوطني وتنويع مصادر الدخل، مختلفا كثيرا، في فكرته العامة، عن البيان الذي أصدرته وزارة المالية في نهاية يناير الماضي، والذي حذرت فيه من استمرار الأوضاع المالية الراهنة والمخاطر المستقبلية للعجز المالي، لتوافق بعد ذلك بيومين على اقتراح نيابي بدعم مواد البناء ضمن القرض الإسكاني، بما يصل إلى 30 ألف دينار.كذلك لم يكن التحذير، الذي أطلقه الوزير الصالح في مجلس الامة يختلف عن التحذيرات الكثيرة التي اطلقها وزراء مالية سابقون كمصطفى الشمالي وبدر الحميضي رجوعا الى الوزير ناصر الروضان في نهاية التسعينيات، في حين تنامت المصروفات الحكومية بشكل لافت خلال سنوات التحذير إلى مستويات عالية. ويكفي ان نعرف انه في ما بين السنوات المالية 2004 - 2005 الى 2012 - 2013 ارتفع الانفاق على المرتبات وما في حكمها من 3.2 مليارات دينار الى 9.5 مليارات، نتيجة لنمو الكوادر والزيادات وتنامي التوظيف في القطاع الحكومي، في حين تصاعد الدعم المقدم للسلع خلال نفس الفترة من 1.1 مليار دينار الى 5 مليارات.وما بين بيان «المالية» قبل اشهر وعرض الوزير قبل ثلاثة ايام، صدر في بداية فبراير الماضي تقرير المجلس الأعلى للتخطيط، الذي كرر حديث وزارة المالية وصندوق النقد الدولي والعديد من التقارير، كاللجنة الاستشارية الاقتصادية، بل وحتى لجنة اصلاح المسار الاقتصادي عام 2001، والتي اجمعت كلها على ضرورة تغيير الهيكل الاقتصادي الحالي، وحذرت من الاعتماد على مصدر وحيد للدخل، مشددة على ضرورة مراجعة اليات الانفاق، الا ان ما يقال لا يتم تنفيذه على ارض الواقع.انعدام الجديةالمشكلة ان سلوك الحكومة، رغم توفر البيانات والتقارير والإحصائيات، لا يشير الى جدية في اتخاذ خطوات حقيقية في الاتجاه الصحيح، بل انها في احيان كثيرة تتجه الاتجاه المعاكس للخطة، وهذا ما حدث في مسألة رفع الدعم الخاص لمواد البناء، بل انها - الحكومة - لاتزال تتعامل مع مختلف الاقتراحات النيابية الخاصة بالزيادات المالية بمنطق التأجيل وشراء المزيد من الوقت، بدلا من العمل على رفضها، اذ ان ترحيل حسم زيادات الاولاد وبدل الايجار الى دور الانعقاد المقبل ما هو الا تأجيل «للمعركة « في وقت يفترض على الحكومة ان تتفرغ لمعارك اخرى اهم تتعلق بكيفية هيكلة الدعم مثلا واعادة احتساب قيمة استغلال املاك الدولة وغيرها من المواجهات المستحقة.فتأجيل رفض العلاوات والزيادات لا يتسق مع البيانات الشديدة التي تصدرها الحكومة او الجهات الاستشارية التي تتعامل معها، بما يوحي انها غير قادرة، بما فيه الكفاية، على رد التكاليف الاضافية على الميزانية، مما يعني انها لن تستطيع ابدا السير في الاتجاه الصحيح، وهو ما يتمثل في تحصيل أموال اكثر لمصلحة الدولة مقابل الخدمات التي تقدمها كالكهرباء والبنزين والديزل والأراضي والمصانع والمزارع والشاليهات وغيرها، فالسياسة الحكومية يجب أن يكون لها اتجاه واضح، أما التذبذب فلن ينفع في مواجهة مجتمع يرفض بشكل عام ما يعتبره مكتسبات عامة، وفي ظل وجود شريحة كبيرة من النواب ليس لديهم ما يقدمونه اكثر من المزايدة المالية على حساب الميزانية.اليوم تأتي الحكومة من خلال ديوان الخدمة المدنية لتطرح البديل الاستراتيجي للرواتب بكلفة اضافية تبلغ 560 مليون دينار للسنة الاولى من تطبيق البديل دون توصيف لطبيعة العمل وحجم الانتاج، وبما يشجع على زيادة هجرة الموظفين من القطاع الخاص الى العام، مما يعني تحميل الميزانية العامة مزيدا من النفقات وضغطا اكبر على التأمينات الاجتماعية، وبما يعاكس خطة الحكومة الخاصة بخفض الانفاقات خصوصا على الباب الاول.السلوك الحكومي في حقيقته غالبا ما يعاكس الخطط التي من المفترض ان تتبناها الحكومة، وهنا لا بد من العمل بشكل اكبر على ترشيد الادارة العامة ووضع اليات من شأنها رصد الخطط الحكومية وقياس مستوى التنفيذ واصلاح الخلل في المواطن التي تعطي نتائج سلبية، فمن غير المقبول، مثلا، أن تسجل الميزانية انخفاضاً بـ9% في الإنفاق الاستثماري و0.7% في تراجع الإيرادات غير النفطية، رغم خطط رفعهما، في حين ترتفع المصروفات العامة 3.2%رغم الاتجاه إلى تقليصها.الواقعية والشمولالحديث عن ترشيد الدعم يجب ان يكون واقعيا وشاملا ويلامس اصل المشكلة، بحيث يكون جزءاً من حل اقتصادي اشمل للوصول الى اقتصاد حقيقي، فلا معنى لضخ 600 مليون دينار سنويا في دعم الديزل الذي تتحقق الفائدة الاكبر فيه للشركات لا للأفراد، ولا معنى أيضا لدعم الأراضي التجارية بالماء والكهرباء بنفس سعر دعم السكن الخاص، أي بفلسين للكيلووات و800 فلس لكل 10 آلاف غالون مياه، إضافة إلى ضرورة خلق شرائح ترشيد للسكن الخاص تبدأ بأسعار مدعومة، وتتصاعد قيمتها كلما تصاعد الاستهلاك، فهذا خيار يحمي الطبقة المتوسطة ويشجع على سلوك الترشيد في استخدام خدمات الدولة.مخاطر العجز المالي المتوقع، رغم صحته بل وضرورة التدخل السريع لمنع وقوعه، تستلزم في المقابل اعادة النظر في العديد من الممارسات الخاطئة كالافراط الحكومي في السنوات الاخيرة في صرف مليارات الدنانير على المنح والمساعدات لدول عربية بهدف مجابهة الربيع العربي مرورا بالتجاوزات المالية في المناقصات والمشاريع الحكومية وانتهاءً بالمميزات الخاصة بالقياديين والوزراء... فالتقشف وضبط الانفاق يجب ان يشملا الجميع دون استثناء.ما تحتاج إليه الميزانية فعلا هو الكثير من الاجراءات لا مجرد رفع الدعم -رغم ضرورته- فهناك حاجة إلى خصخصة حقيقية تتوافر فيها المنافسة للمستهلك ويكون دور الدولة فيها رقابيا واشرافيا من خلال هيئات عليا لكل قطاع يتم تخصيصه، كذلك يجب رفع العبء المتكون على الميزانية العامة بسبب التوظيف والرواتب والاجور، التي تستهلك اكثر من 10 مليارات دينار من اصل 22 ملياراً، هي اجمالي الموازنة (6 مليارات دينار قيمة دعم السلع) ورفع العبء يكون بإطلاق المشاريع الصغيرة والمتوسطة بتسهيل الاجراءات والتمويل ومنح الأراضي وتسهيلات العمالة، فضلاً عن استقطاب استثمارات اجنبية تخلق فرص عمل للعمالة الوطنية، كي تتاح الفرصة للطامحين في العمل الحر لأن يجدوا ضالتهم بعيدا عن العمل الحكومي.كثير جداً يمكن ان يقال في موضوع ترشيد الدعم وإصلاح الاقتصاد وهيكلة الميزانية، الا انه قبل ذلك كله يجب ان يرتبط بإدارة تعرف ما تريد وقادرة على تحقيق أهدافها، وتمتلك النموذج الناجح الذي يدعم تسويق خططها، فالخطر اكبر من أي سياسة سابقة يتمثل في شراء الولاءات وكسب الوقت لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المستقبل.
آخر الأخبار
تقرير اقتصادي: إصلاح الميزانية... سلوك حكومي معاكس للخطط والنتائج سلبية
22-05-2014