استضافتني قناة سكوب يوم الاثنين الماضي عشية غلق السفارات المصرية في الخارج أبوابها، بعد تصويت المصريين في الخارج على انتخاب رئيس مصر القادم، في برنامج مع كل التقدير، الذي تدير الحوار فيه المذيعة القديرة حنان كمال، وتطرق الحوار إلى الانتخابات الرئاسية السابقة، التي فاز فيها الرئيس المعزول د. محمد مرسي، على منافسه في جولة الإعادة الفريق أحمد شفيق، بعد أن حشدت جماعة الإخوان في ميدان التحرير في مصر الملايين من الشعب المصري، الخائف على ثورته، وقد شوهت الجماعة صورة الفريق أحمد شفيق بأنه رجل النظام السابق، وأنه بفوزه سيعود هذا النظام، واعتصمت الجماهير في الميدان حتى إعلان النتيجة بفوز محمد مرسي، وأرسلت الجماعة تحذيرها للمجلس العسكري بحرق مصر وإشعال النيران في مؤسساتها، وأن الإخوان سوف يشعلونها حربا أهلية، وهو تحذير رددته السفيرة الأميركية للمسؤولين في مصر.

Ad

وتحت هذه الضغوط الدولية والمحلية أعلنت لجنة الانتخابات الرئاسية فوز محمد مرسي رئيسا لمصر، وتولى سدة الحكم في 30 يونيو 2012، فأغلق ملف التحقيق الذي كان يجرى في البلاغ الذي قدمه الفريق أحمد شفيق، في التزوير الذي وقع في الانتخابات الرئاسية، ليعاد فتح الملف مرة أخرى بعد عزل الرئيس محمد مرسي، ويندب رئيس محكمة الاستئناف المستشار عادل إدريس لاستكمال التحقيق في هذا التزوير الذي حدث في الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها الرئيس المعزول. ويتولى المستشار التحقيق في البلاغ، ويستدعى للشهادة أمامه أعضاء لجنة الانتخابات، وكانوا قد أحيلوا إلى التقاعد ببلوغ السن القانونية، ويثير هذا الاستدعاء ثائرة كل من رئيس محكمة النقض رئيس المجلس الأعلى للقضاء، وكذلك رئيس محكمة الاستئناف على قاضي التحقيق، فكلاهما يريد أن يسدل الستار على هذه المسألة حرصا على سمعة القضاء، ولكن قاضي التحقيق يرفض تدخلهما ويرفض إرسال ملف التحقيق إلى رئيس محكمة الاستئناف المستشار نبيل صليب، ويرسل الملف إلى النائب العام بمذكرة برأيه ليتولى -وجوباً- تحريك الدعوى الجنائية قبل المتهمين، إلا أن المستشار نبيل صليب يقرر إلغاء ندب المستشار عادل إدريس وندب المستشار طارق العقاد لاستكمال التحقيق ويرفع الأخير بعد دراسة الملف مذكرة بأن القضية لا تحتاج إلى استكمال التحقيق، وأن المستشار عادل قد استوفى التحقيق فيها. وهو ما يثير ثلاث قضايا أساسية هي:

الأولى- استقلال القضاء: فاستقلال القضاء ليس ميزة يتمتع بها القاضي في كادر وظيفي خاص، أو في موازنة مستقلة، تدرج بعد إقرارها في الموازنة العامة للدولة رقما واحد، لمنح رؤساء ومجالس الهيئات القضائية سلطات واسعة في النقل من باب إلى باب في الموازنة بالمخالفة للمبادئ العامة في الميزانية وتجاوز بنود الميزانية وأبوابها، دون رقابة من البرلمان على الحساب الختامي، هذه الرقابة هي أولى مهام البرلمانات التي أنشئت من أجلها. إنما استقلال القضاء يعني في ما يعنيه ألا يحاكم الشخص إلا أمام قاضيه الطبيعي، ولا يسلب من المحاكم العامة ولايتها، ولا تنشأ جهات استثنائية للقضاء، وأن تحترم أحكام المحاكم. ولهذا فإن منح رئيس محكمة الاستئناف سلطات واسعة في انتزاع قضية من أمام النيابة العامة وندب قاض للتحقيق فيها يخل بسير العدالة، لأنه يهدر فكرة القاضي الطبيعي، لأن اختيار هذا القاضي يكون انتقائياً لقضية بذاتها.

الثانية- ضمير القاضي هو أهم ضمانة: قالها منذ سبعين عاما عند تقديمه أول قانون لاستقلال القضاء في مصر، وزير العدل المرحوم محمد صبري أبو علم «إن خير ضمانات للقاضي هي تلك التي يستمدها من قرارة نفسه، وخير حصن يلجأ إليه هو ضميره، فقبل أن تفتش عن ضمانات للقاضي فتش عن الرجل تحت وسام الدولة... فلن يصنع الوسام منه قاضياً إن لم يكن له بين جنبيه نفس القاضي وعزته وغضبته لاستقلاله».

فقد أثبت المستشار عادل إدريس الذي انتدب للتحقيق في قضية التزوير في الانتخابات الرئاسية السابقة، أن قضاء مصر الشامخ عصي على التدخل، فأرسى هذا القاضي حصن استقلاله برفضه تدخل رئيس محكمة الاستئناف في القضية، وفي شؤون العدالة، وإصراره على المضي قدما في التحقيق الذي ندب إليه، وعلى تكوين عقيدته من الأوراق والتحقيقات التي أمامه، وترسيخه مبدأ سيادة القانون، الذي يعني فيما يعنيه سريان القانون، على الحاكم قبل المحكوم، وأن رجال القضاء ليسوا بمنأى عن الخضوع للقانون والمحاسبة.

الثالثة - النأي برجال القضاء عن اللجان الإدارية: وتعتبر لجنة الانتخابات الرئاسية التي أشرفت على الانتخابات السابقة التي تم تزويرها لجنة إدارية، ولو كانت مشكلة من رجال يحتلون أعلى المناصب القضائية، وقد خرجت هذه اللجنة التي كان يتضمنها تعديل دستور مصر (سنة 1971) عام 2005 ولجنة الانتخابات البرلمانية التي تضمنها تعديل دستوري آخر عام 2007 من رحم ردة دستورية عن الإشراف القضائي، ليرتكب النظام الحاكم السابق ما يراه من جرائم تزوير في الانتخابات متدثراً بعباءة رجال القضاء وثوبهم الأبيض، حيث كان الإشراف القضائي على الانتخابات قد تقرر لأول مرة في المادة 88 من دستور مصر 1971 معبراً عن ضمير الجماعة نابعاً من نفسها، ومتأثرا في وضعه بالواقع السياسي الذي عاشته مصر في ظل ثقافة سائدة هي ثقافة التزوير في الانتخابات، حيث كان التزوير يتم جهاراً نهاراً وبأوامر من السلطة العليا، قبل تقرير الإشراف القضائي على الانتخابات في دستور 1971.

وهو التعديل الذي كان موضع انتقادنا في مقال لنا نشر في جريدة «الوفد» في مصر في عددها الصادر في 22 مايو سنة 2005 تحت عنوان «تعديل دستوري أم ردة دستورية». وللحديث بقية حول النأي برجال القضاء عن المشاركة في اللجان الإدارية.