الأم... ذاكرة الحنين والعطاء بلا ضفاف

نشر في 20-03-2014 | 00:01
آخر تحديث 20-03-2014 | 00:01
No Image Caption
للأم حضور خاص في ذاكرة الشعراء، ولكل شاعر تجربته مع دلالات الأمومة ورموزها، وبصمة وجدانية تستعيد البراءة والحنين إلى ذكريات الطفولة، وعبر تاريخ ديوان العرب، تشكلت أيقونات إبداعية تحتفي برمز العطاء بلا ضفاف.
يلفت مؤرخو الشعر العربي إلى تنوع صورة الأم في وجدان الشعراء وثرائها، ومنذ فجر التاريخ  توثقت الصلة بين القصيدة وفكرة الأمومة، وتشكلت من تناغم الرمز والأسطورة، وسخاء عاطفي في فضاء المديح والاحتفاء.

استقرت قصائد «الأم» في الذاكرة وارتبطت بمعطيات اجتماعية وسياسية، وتلبية وجدانية لذات «الشاعر»، وتوقه إلى الانفلات من متاهة الاغتراب، والعودة إلى زمن فائت، واكتشاف المعنى الشمولي لغريزة التعلق بأسمى المشاعر الإنسانية.

صارت الأم لدى بعض الشعراء، مركزاً كونياً، وسيدة نساء العالم، وحفلت قصائدهم بصور وأخيلة، ونزق طفولي، ورغبة جارفة في استعادة براءة مفتقدة، والخروج من برزخ الهموم إلى رحابة معاني الحب والانتماء.  

معادل للحياة

في قصيدته «أنا والنساء» يلخص الشاعر نزار قباني تجربته الحياتية، ويبوح بتوقه إلى سنوات الطفولة، ويستحضر صورة «الأم» كمعادل للحياة، وتدوين سيرة وطن، واكتشاف الجانب الآخر من ذات «شاعر الحب والحنين».  

أريد استعادة وجهي البريء كوجه الصلاة

أريد الرجوع إلى صدر أمي

أريد الحياة..

ويقول نزار في قصيدته «خمس رسائل إلى أمي»:

صباح الخير ياحلوة

صباح الخير ياقديستي الحلوة

مضى عامان يا أمي

على الولد الذي أبحر برحلته الخرافية

قصيدة خالدة

وعبر المنافي تشكل حضور «الأم» في قصائد الشاعر محمود درويش، وتناغم المجازي والواقعي، وطالع القراء صورته مع السيدة الصامدة، وشموخها النبيل في جنازته، لتصبح رمزاً لكل أم فلسطينية، وقصيدة خالدة في الوجدان العربي.  

خذيني أمي، إذا عدت يوماً

وشاحاً لهدبك

وغطي عظامي بعشب

تعمد من طهر كعبك

وشدي وثاقي... بخصلة شعر

بخيط يلوح في ذيل ثوبك

وفي قصيدته «أجمل الأمهات» يقول درويش:

أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها

أجمل الأمهات التي انتظرته

وعاد مستشهدا

فبكت دمعتين ووردة

ولم تنزو في ثياب الحداد

مراحل تاريخية

تشكل حضور «الأم» في الشعر عبر مراحل تاريخية فارقة، وتتابعت القصائد المحتفية بأم الشهيد، وتجسيد تضحياتها للوطن بفلذة أكبادها، وصارت مراثي الخنساء مفتتحاً لديوان كوكبة من الشعراء يعبرون عن خلجات أمهات فقدن فلذات أكبادهن في الحروب.

 وعلى نحو مأساوي تأتي مرثية الشاعر ممدوح عدوان «تأبين صباحي»، التي يعبر من خلالها عن فقده لأمه، وتتدفق مشاعر أليمة، وصورة لحشد من الأمهات في الموكب الجنائزي، وأصداء صوت ناي يعزف أنشودة الرحيل.

حشد من الأمهات اللواتي

يبيضهن البكاء

يجئن كما يهجم الدمع وسط المواويل

ثم يجئن مع الفجر

لا يقبل الضوء

وفي قصيدة «جنوب» للشاعر صلاح عبدالصبور، يتغنى الصوت بالفقد والحنين إلى أمه وأبيه، وتتتابع الصور المجازية على نحو غائم، ويسطع حضور ملائكي في فضاء تخيلي، وتنفلت الحواس بحثاً عن رائحة أزمنة ماضية.   

أنفاس أمي وأبي

في الجو تعبق كالعبير

وحديثهم كحنين حسون حزين

يذوب مع همس الخرير

وأطيافهم بيضاء تبدو

كالملائكة في السماء  

ويستحضر الشاعر بدر شاكر السياب ملامح الأم الغائبة، وتتشكل قصيدته «جيكور أمي» من طيوف الذكريات، وتصير قريته ملاذه الأخير، ويعود إليها كطفل أنهكه التعب، وصراعه الطويل مع آلام المرض.

تلك أمي وإن أجئها كسيحا

لاثماً أزهارها والماء فيها والترابا

ونافضا بمقلتي أعشاشها والغابا  

وفي قصيدة «أم النخيل» للشاعر غازي القصيبي، تتحول «الأم» إلى رمز لمهد طفولته، ويناجيها بشوق الابن لأحضان أمه، ويستحضر طيوف الماضي البعيد، ومكابدات الغياب، والحنين إلى عالم البراءة.

لا تسألي عن معاناة تمزقني

أنا اخترعت الظمأ... والسهد... والمللا

هل تغفرين؟ وهل أم وما نثرت

على عقوق فتاها الحب والقبلا

نهر العطاء

 اتخذ الشعراء من «الأم» رمزاً للعطاء والوطن البعيد، وتجسدت فضائلها في قصائد ذاتية، وأخرى ذات صبغة اجتماعية وسياسية، وبلغت ذروتها في استلهام شخصيات أسطورية، واستحضار لسيرة الأمهات الخالدات في التاريخ العربي.

وضم ديوان العرب قصائد «الأم» لكبار الشعراء الكلاسيكيين والرومنسيين، وتباينت صورتها بين المباشرة والرمز، وصارت نهرا للمشاعر الفياضة، ومثالا للفضيلة والعطاء.

في هذا السياق قصيدة شهيرة للشاعر حافظ إبراهيم، وخطابه المباشر بضرورة رعاية الأم، وإعدادها لتحمّل مسؤوليتها كزوجة وأم، وتنبيه المجتمع إلى مكانتها ودورها في الارتقاء الحضاري للأمم.  

الأم مدرسة إذا أعددتها

أعددت شعباً طيب الأعراق

الأم روض إن تعهده الحيا

بالري أورق أيما إيراق

ويستحضر أمير الشعراء أحمد شوقي، صورة صادمة لابن عاق يقدم على قتل أمه، ويتخللها المعنى العميق للأمومة، وفيض المشاعر الجارفة، ومغزى العلاقة بين «الثابت» من تسامح باتساع الأرض، و» المتغير» من عقوق بعض الأبناء.

ناداه قلب الأم وهو معفر

ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟

فكأن الصوت رغم حنوه

غضب السماء على الغلام قد انهمر   

وتظل مكانة الأم حاضرة في ذاكرة الشعراء، والملاذ الآمن لأرواح مجهدة، وطاقة شعورية ملهمة للإبداع، والتحليق نحو آفاق التجريب والمغامرة الشعرية، وثراء الكتابة عن وشائج الحب والحنين الدائم إلى أسمى الكائنات.

back to top