الأم... ذاكرة الحنين والعطاء بلا ضفاف
للأم حضور خاص في ذاكرة الشعراء، ولكل شاعر تجربته مع دلالات الأمومة ورموزها، وبصمة وجدانية تستعيد البراءة والحنين إلى ذكريات الطفولة، وعبر تاريخ ديوان العرب، تشكلت أيقونات إبداعية تحتفي برمز العطاء بلا ضفاف.
يلفت مؤرخو الشعر العربي إلى تنوع صورة الأم في وجدان الشعراء وثرائها، ومنذ فجر التاريخ توثقت الصلة بين القصيدة وفكرة الأمومة، وتشكلت من تناغم الرمز والأسطورة، وسخاء عاطفي في فضاء المديح والاحتفاء.استقرت قصائد «الأم» في الذاكرة وارتبطت بمعطيات اجتماعية وسياسية، وتلبية وجدانية لذات «الشاعر»، وتوقه إلى الانفلات من متاهة الاغتراب، والعودة إلى زمن فائت، واكتشاف المعنى الشمولي لغريزة التعلق بأسمى المشاعر الإنسانية.
صارت الأم لدى بعض الشعراء، مركزاً كونياً، وسيدة نساء العالم، وحفلت قصائدهم بصور وأخيلة، ونزق طفولي، ورغبة جارفة في استعادة براءة مفتقدة، والخروج من برزخ الهموم إلى رحابة معاني الحب والانتماء. معادل للحياةفي قصيدته «أنا والنساء» يلخص الشاعر نزار قباني تجربته الحياتية، ويبوح بتوقه إلى سنوات الطفولة، ويستحضر صورة «الأم» كمعادل للحياة، وتدوين سيرة وطن، واكتشاف الجانب الآخر من ذات «شاعر الحب والحنين». أريد استعادة وجهي البريء كوجه الصلاةأريد الرجوع إلى صدر أميأريد الحياة..ويقول نزار في قصيدته «خمس رسائل إلى أمي»:صباح الخير ياحلوةصباح الخير ياقديستي الحلوةمضى عامان يا أميعلى الولد الذي أبحر برحلته الخرافيةقصيدة خالدةوعبر المنافي تشكل حضور «الأم» في قصائد الشاعر محمود درويش، وتناغم المجازي والواقعي، وطالع القراء صورته مع السيدة الصامدة، وشموخها النبيل في جنازته، لتصبح رمزاً لكل أم فلسطينية، وقصيدة خالدة في الوجدان العربي. خذيني أمي، إذا عدت يوماًوشاحاً لهدبكوغطي عظامي بعشبتعمد من طهر كعبكوشدي وثاقي... بخصلة شعربخيط يلوح في ذيل ثوبكوفي قصيدته «أجمل الأمهات» يقول درويش:أجمل الأمهات التي انتظرت ابنهاأجمل الأمهات التي انتظرتهوعاد مستشهدافبكت دمعتين ووردةولم تنزو في ثياب الحدادمراحل تاريخيةتشكل حضور «الأم» في الشعر عبر مراحل تاريخية فارقة، وتتابعت القصائد المحتفية بأم الشهيد، وتجسيد تضحياتها للوطن بفلذة أكبادها، وصارت مراثي الخنساء مفتتحاً لديوان كوكبة من الشعراء يعبرون عن خلجات أمهات فقدن فلذات أكبادهن في الحروب. وعلى نحو مأساوي تأتي مرثية الشاعر ممدوح عدوان «تأبين صباحي»، التي يعبر من خلالها عن فقده لأمه، وتتدفق مشاعر أليمة، وصورة لحشد من الأمهات في الموكب الجنائزي، وأصداء صوت ناي يعزف أنشودة الرحيل. حشد من الأمهات اللواتييبيضهن البكاءيجئن كما يهجم الدمع وسط المواويلثم يجئن مع الفجرلا يقبل الضوءوفي قصيدة «جنوب» للشاعر صلاح عبدالصبور، يتغنى الصوت بالفقد والحنين إلى أمه وأبيه، وتتتابع الصور المجازية على نحو غائم، ويسطع حضور ملائكي في فضاء تخيلي، وتنفلت الحواس بحثاً عن رائحة أزمنة ماضية. أنفاس أمي وأبيفي الجو تعبق كالعبيروحديثهم كحنين حسون حزينيذوب مع همس الخريروأطيافهم بيضاء تبدوكالملائكة في السماء ويستحضر الشاعر بدر شاكر السياب ملامح الأم الغائبة، وتتشكل قصيدته «جيكور أمي» من طيوف الذكريات، وتصير قريته ملاذه الأخير، ويعود إليها كطفل أنهكه التعب، وصراعه الطويل مع آلام المرض.تلك أمي وإن أجئها كسيحالاثماً أزهارها والماء فيها والتراباونافضا بمقلتي أعشاشها والغابا وفي قصيدة «أم النخيل» للشاعر غازي القصيبي، تتحول «الأم» إلى رمز لمهد طفولته، ويناجيها بشوق الابن لأحضان أمه، ويستحضر طيوف الماضي البعيد، ومكابدات الغياب، والحنين إلى عالم البراءة.لا تسألي عن معاناة تمزقنيأنا اخترعت الظمأ... والسهد... والمللاهل تغفرين؟ وهل أم وما نثرتعلى عقوق فتاها الحب والقبلانهر العطاء اتخذ الشعراء من «الأم» رمزاً للعطاء والوطن البعيد، وتجسدت فضائلها في قصائد ذاتية، وأخرى ذات صبغة اجتماعية وسياسية، وبلغت ذروتها في استلهام شخصيات أسطورية، واستحضار لسيرة الأمهات الخالدات في التاريخ العربي.وضم ديوان العرب قصائد «الأم» لكبار الشعراء الكلاسيكيين والرومنسيين، وتباينت صورتها بين المباشرة والرمز، وصارت نهرا للمشاعر الفياضة، ومثالا للفضيلة والعطاء.في هذا السياق قصيدة شهيرة للشاعر حافظ إبراهيم، وخطابه المباشر بضرورة رعاية الأم، وإعدادها لتحمّل مسؤوليتها كزوجة وأم، وتنبيه المجتمع إلى مكانتها ودورها في الارتقاء الحضاري للأمم. الأم مدرسة إذا أعددتهاأعددت شعباً طيب الأعراقالأم روض إن تعهده الحيابالري أورق أيما إيراقويستحضر أمير الشعراء أحمد شوقي، صورة صادمة لابن عاق يقدم على قتل أمه، ويتخللها المعنى العميق للأمومة، وفيض المشاعر الجارفة، ومغزى العلاقة بين «الثابت» من تسامح باتساع الأرض، و» المتغير» من عقوق بعض الأبناء.ناداه قلب الأم وهو معفرولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟فكأن الصوت رغم حنوهغضب السماء على الغلام قد انهمر وتظل مكانة الأم حاضرة في ذاكرة الشعراء، والملاذ الآمن لأرواح مجهدة، وطاقة شعورية ملهمة للإبداع، والتحليق نحو آفاق التجريب والمغامرة الشعرية، وثراء الكتابة عن وشائج الحب والحنين الدائم إلى أسمى الكائنات.