سأحدثكم اليوم عن مخرجة إماراتية شابة اسمها نايلة الخاجة، ليس لأنها فازت بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة «المهر الإماراتي» التي أقيمت ضمن فعاليات الدورة العاشرة لـ «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، بل لأنها أظهرت في فيلم «الجارة» الذي منحته لجنة التحكيم جائزتها الخاصة، رهافة حس، وموهبة فائقة، ووعياً كبيراً بقضية حوار الحضارات، والتواصل مع الآخر. فالفيلم الذي لا تتجاوز مدته على الشاشة أربعاً وعشرين دقيقة، يرصد، بتكثيف رائع، قصة «سارة» الأجنبية (كريستال بيتس) التي انتقلت للعمل في دبي، واختارت حياة العزلة في البناية التي تسكنها في المدينة الشهيرة، حتى اللحظة التي تدق بابها «موزة» (موزة المزروعي)، عجوز إماراتية وتعنفها بشدة لأن صوت البيانو الذي تعزف عليه يحرمها من الهدوء، والأهم أنه يحول دونها والاستماع إلى الآذان، ومن ثم يمنعها من الصلاة في أوقاتها، ولأن «سارة»  تجهل العربية بينما لا تعرف «موزة» حرفاً في اللغة الإنكليزية يبقى الحاجز بينهما قائماً، وتلجأ العجوز إلى حفيدتها «فاطمة» (صفية المنصوري) التي تتكلم الإنكليزية، لتصبح وسيطها في «الحوار».

Ad

هنا لا نجد صعوبة في فهم المغزى من اختيار الحفيدة، التي تمثل الجيل الجديد، كطرف يُسهم بلغته وثقافته وتحضره في تخفيف حدة الاحتقان، وإزالة الحاجز الكبير بين أطراف الصراع (الشعوب) والوصول إلى حد أدنى من التفاهم. لكن المخرجة التي تملك الكثير من الوعي، تتعامل مع قضيتها بواقعية، وتُدرك أن خلافاً متأصل الجذور كالذي بين «سارة» (الغرب) و{موزة» (الشرق) لن ينتهي بين يوم وليلة؛ فالتقارب الذي تبديه «موزة» يُقابل بتحفظ وارتياب من «سارة» التي ترفض الطعام الذي تأتي به موزة، وتمنحه لرجل أسود البشرة، في اعتراف منها بأنه يقف على أرضية واحدة مع الطرف الآخر (الجارة الخليجية)، وتصل عنجهية «سارة»  وقسوتها إلى ذروتها، بحرمانها الحفيدة من الدُمية التي أرادت أن تلهو بها، وتكاد تطردها وجدتها من شقتها!

«صدام حضارات» بمعنى الكلمة، غير أن مرحلة «التقارب» و{إزالة أسباب سوء التفاهم»، تبدأ مع إحساس «سارة» بأنها أخطأت، بل تسرعت في حكمها، المدعوم بـ «خلفية تاريخية»، على «الطرف الآخر»، وارتيابها غير المبرر في «النوايا»، وتشعر بتأنيب الضمير، وتراجع نفسها ومواقفها، وتعرف «موزة»، في المقابل، أن «سارة» فقدت طفلتها (مبرر قوي لانتزاعها الدُمية بقسوة وعنف من الطفلة الخليجية، فقد كانت تخص ابنتها الراحلة)، وتبادر بزيارة «الجارة» حاملة معها طعاماً أعدته بنفسها، في اعتذار صريح منها عما اقترفته في حقها، وتهدي دُمية ابنتها التي غيبها الموت إلى الطفلة العربية (الجيل الجديد) وقبل هذا كله تبدأ الزيارة قائلة «السلام عليكم» باللغة العربية، وتتبعها بجملة «أنا آسفة»، ويتهلل وجه الجدة بالفرحة؛ خصوصاً عندما تُبدي «سارة» الأجنبية إعجابها بالسوار (التراث) الذي ترتديه «موزة» العربية، في إيحاء بالتقاء الأصالة والمعاصرة، وتجاوز مرحلة «صدام الحضارات» ليحل محلها «حوار الحضارات»، وتنهار مقولة الشاعر والروائي الإنكليزي الشهير روديارد كيبلنغ Rudyard Kipling، {الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا}؛ وينتهي الفيلم بالأطراف جميعاً، يضحكون إيذاناً بانتهاء الأزمة وسقوط الحواجز.

المخرجة الإماراتية نايلة الخاجة التي أنجزت {كشف النقاب عن دبي} (2004)، {عربانة} (2006)، {مرة} (2009)، {ملل} (2010) الذي حصد الجائزة الأولى في مسابقة {المهر الإماراتي} في مهرجان دبي السينمائي الدولي، قالت من خلال فيلمها {الجارة} كل شيء بتعقل ورصانة وسلاسة، من دون أن تنسى أنها بصدد عمل فني، ولا تكتب مقالاً صحافياً،  فنجحت في حشد أدواتها وعناصرها الفنية، كالتصوير (زياد أوكس) والمونتاج (عمرو صلاح) والموسيقي (فلاديمير برسان) فضلاً عن توظيف الممثلين، كلٌ في المكان المناسب له (كريستال بيتس، موزة المزروعي، والطفلة صفية المنصوري)، لإيصال رسالتها بيسر وقدرة على تقنين الجرعة بدقة وإحكام، وموهبة تلمستها في فيلم آخر لها بعنوان {ثلاثة} (11 دقيقة) عرض مهرجان دبي ضمن تظاهرة {أصوات خليجية} وأكدت فيه أنها مهمومة، ليس بواقع أمتها فحسب، إنما بالقضايا الإنسانية كافة. يحذر الفيلم من تنامي ظاهرة العنف لدى الأطفال وتهديدها الخطير للأسرة والمجتمع بأكمله، وهي القضية التي تناولتها في فيلمها {عربانة} (صامت بالأبيض والأسود) الذي يندد بخطورة إهمال الوالدين لأطفالهما...

 يا لها من مخرجة ينتظرها مستقبل كبير.