ثورة التصنيف
"طاب صباحك يا سيدي، كيف يمكنني مساعدتك؟". هكذا سألني الحاجب عند بوابة الفندق الذي نزلت فيه في باريس، وعلى الفور تساءلت ما الذي حدث لسمعة العجرفة التي اشتهرت بها المدينة، وخاصة في التعامل مع السياح الأميركيين، إذا كانت العاصمة الفرنسية لم تعد المدينة الأكثر فظاظة في أوروبا، فلعل الفضل في هذا يرجع إلى نمو أدوات التقييم والتصنيف على شبكة الإنترنت، مثل (TripAdvisor).بدأت مواقع السفر تظهر على الإنترنت في تسعينيات القرن العشرين، عندما أطلقت مواقع حجز العطلات مثل إكسبيديا وترافيلوسيتي وغير ذلك من المواقع، لكي تسمح للمسافرين بالمقارنة بين أسعار الطيران والفنادق بضغطة واحدة، وبهذا لم تعد المعلومات خاضعة لسيطرة وكالات السفر أو مخبأة في شبكات الأعمال، الأمر الذي أدى إلى إحداث ثورة في صناعة السفر، كما ساعدت زيادة الشفافية في خفض الأسعار إلى حد كبير.
واليوم تشهد صناعة السفر مخاض ثورة جديدة، هذه المرة تتعلق بتحويل جودة الخدمات، تسمح منصات التصنيف والتقييم على شبكة الإنترنت، المتخصصة في الفنادق مثل (TripAdvisor)، أو المطاعم مثل (Zagat)، أو الشقق مثل (Airbnb)، أو سيارات الأجرة مثل (Uber)، للمسافرين بتبادل الخبرات وعرضها للجميع.الآن تخضع صناعة الضيافة للتصنيف والتحليل والمقارنة، ليس من متخصصين في هذه الصناعة، بل بواسطة الأشخاص المقصودين بالخدمة؛ العملاء، وقد ساعد هذا في تشكيل علاقة جديدة بين المشتري والبائع. كان العملاء يصوتون دوماً بعدم العودة إلى مقدم الخدمة إذا لم يرضوا عنها؛ والآن بات بوسعهم أن يشرحوا قرارهم لكل من يهمه الأمر. ونتيجة لهذا، أصبحت الشركات أكثر خضوعاً للمساءلة، وغالباً بطرق بالغة التحديد، الأمر الذي خلق حوافز قوية لتحسين الخدمة.ورغم أن بعض القراء قد لا يكترثون بالتقارير الثرثارة عن خدم الفنادق الأفظاظ في برلين أو مجففات الشعر المعطلة في فنادق هيوستن، فإن القوة الحقيقية التي تتمتع بها مثل هذه المراجعات لا تكمن في القصص الفردية، بل في قدرة المواقع في الإنترنت على تجميع كميات كبيرة من التصنيفات.والواقع أن التأثير قوي للغاية، فالشركات التي تستحوذ على أعلى التصنيفات تتمتع بنمو هائل، مع انجذاب عملاء جدد بفضل المراجعات الجيدة في مجملها، وتكتسب بالتالي المزيد من الآراء (الإيجابية)، ويبلغ تأثير هذه التصنيفات على شبكة الإنترنت حداً عظيماً، حتى إن العديد من الشركات تستأجر من يديرون السمعة الرقمية لضمان هوية إيجابية على الإنترنت.الواقع أن النظام ليس فعّالاً في كل الأحوال، فمن المعروف أن بعض المشغلين الشائنين يدفعون في مقابل مراجعات وهمية كاذبة لتعزيز تصنيفاتهم، وقد يكون العملاء أيضاً مخادعين أو ما هو أسوأ من ذلك، بل ربما ينخرطون في عمليات ابتزاز، وهو ما قد يحدث، كما يشرح موقع TripAdvisor، "عندما يهدد أحد النزلاء بكتابة استعراض سلبي ما لم يلب الفندق طلبه باسترداد أمواله أو ترقيته إلى غرفة أفضل، أو غير ذلك من الطلبات".ومن حسن الحظ أن التكنولوجيا تكافح سوء استخدام التصنيفات على هذا النحو، فهناك برامج خوارزمية يمكنها بالفعل كشف المراجعات الزائفة من خلال تحديد آراء إيجابية (أو سلبية) صادرة باستمرار عن نفس الشخص صاحب المراجعة، وبوسع تطبيقات تتبع الموقع الجغرافي أن تضمن أن العملاء الذين استفادوا من الخدمة فعلياً هم وحدهم القادرون على الإدلاء بآرائهم (كما هي الحال مع Airbnb). الواقع أن المنتقدين المشاكسين يجدون من يرد عليهم نتيجة لتطور آخر مفاجئ: ففي حين قد يعرب العملاء عن آرائهم في خدمة ما، فإن مقدم الخدمة أيضاً يستطيع أن يقيم عملاءه، كما أثبت موقع Uber، والواقع أنه من غير المستبعد أن تختار الفنادق الشهيرة ضيوفها ذات يوم.وتشهد العلاقات التقليدية بين المستهلكين والمنتجين انهياراً واضحاً بطرق أخرى أيضا، فظهور "اقتصاد المشاركة"، حيث يمكن تقاسم الأصول- مثل السيارات أو مواقف السيارات، أو غرف النوم الإضافية داخل المجتمعات- لا يعمل على توليد حسن النوايا المتبادل فحسب، بل يطمس أيضاً الفارق بين المشتري والبائع.ولكن لا نستطيع أن نزعم أن كل الخدمات تأثرت بالتصنيفات على الإنترنت، ذلك أن تأثير التصنيف يعتمد على ما إذا كان المستهلك العادي يقرأ المراجعات على مواقع الإنترنت بالفعل قبل اتخاذ القرار، ففي حين قد يكون هذا شائعاً على نحو متزايد عند حجز غرف الفنادق على سبيل المثال، فإنه أقل شيوعاً عند الاختيار بين حانات في شارع مزدحم على سبيل المثال (وتشهد فظاظة النادل الفرنسي المستمرة على ذلك).ولكن حتى المؤسسات الخدمية التي تعتمد على "الجاذبية الخارجية" لاجتذاب العملاء قد تصبح أيامها معدودة سريعا، والواقع أن انتشار "الواقع المعزز"- وهو عبارة عن تراكب من المعلومات الرقمية، كما طورته نظارات غوغل (Google Glass)- يَعِد بتحويل الأنشطة اليومية إلى خبرة رقمية-مادية هجين، حيث تصبح ملاحظات العملاء فورية ومتاحة بسهولة للمشترين.وسوف يظل المعقل الأخير ضد مواقع التقييم والتصنيف تلك الخدمات التي لا يملك العملاء فيها الاختيار بين عروض مختلفة، وهي عادة احتكارات أو هيئات حكومية، مثل المطارات، ويُعَد مطار شانغي في سنغافورة استثناءً نادرا: فهو يلتمس تقييم المستخدم عند كل منعطف، من خلال شاشات الملاحظات التي يظهر عليها وجه مبتسم مبتهج يطلب آراء المسافرين حول كل شيء من كفاءة خدمة الجوازات إلى نظافة المراحيض.وغني عن القول إن العديد من الاقتصادات المتقدمة متأخرة في هذا المجال، على الأقل حتى الآن، ولكن كل شيء بات واضحاً وكأنه نقش على جدار، أو على الأقل على شاشة معلقة على جدار. والواقع أنك إن كنت تقرأ هذا على الإنترنت ولا توافقني الرأي، فبوسعك أن توضح أسبابك في قسم التعليقات المصاحب لهذا المقال.كارلو راتي - Carlo Ratti & وماتيو كلوديل - Matthew Claudel*كارلو راتي عضو مجلس الأجندة العالمية للمنتدى الاقتصادي العالمي حول مدن المستقبل، وهو يتولى إدارة مختبر سينسبل سيتي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وماثيو كلوديل زميل الأبحاث في مختبر سينسبل سيتي.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»