مذبحة سربرنيتشا ومذبحة غزة

Ad

مذبحتان تناقلت وكالات الأنباء أخبارهما في الأيام القليلة الماضية، الأولى وقعت في يوليو منذ ما يقرب من عشرين عاما، ولكنها أطلت برأسها هذه الأيام، عندما أصدرت محكمة هولندية حكمها الذي أدانت فيه الكتيبة الهولندية، التي كانت تشارك في قوات حفظ السلام الدولية، وكانت مهمة الكتيبة المتمركزة في قرية سربرنيتشا حماية مسلمي البوسنة والكروات الذين فروا من القوات الصربية، فقصرت الكتيبة في حمايتهم، بل أثبتت المحكمة في حكمها، أن الكتيبة الهولندية سلمتهم إلى القوات الصربية، التي أعدمت ثلاثمئة من الرجال والصبيان المسلمين، في جريمة بشعة ظلت تؤرق الضمير الهولندي، طيلة عشرين عاماً إلى أن أصدرت المحكمة الهولندية حكمها المذكور، ليصحو ضمير العالم المتقدم على مذبحة أخرى، لن تجد محكمة تدين آلة القمع الإسرائيلية، لأن العالم أصم أذنيه عن كل جرائم الإبادة الجماعية التي تمارسها هذه الآلة ضد الشعب الفلسطيني منذ أن أقامت دولتها على الأرض الفلسطينية، وآخرها مذبحة غزة التي يعيشها العالم هذه الأيام، والتي ربما يصل عدد الشهداء فيها إلى عدد مماثل لشهداء سربرنيتشا عند صدور هذا العدد من الجريدة.

العدالة الهولندية

ولم تجد الحكومة الهولندية بأساً في نشر هذا الحكم ونقله عبر وكالات الأنباء العالمية، وهو الحكم الذي ألزم الحكومة الهولندية بتعويض أهالي الضحايا، فهو مفخرة للعدالة الهولندية، فالمحاكم لا تعمل وراء جدران مغلقة، بل تؤدي رسالتها في وضح النهار في جلسات علنية، وقد أصدرت المحكمة حكمها وهي معصوبة العينين عن الفهم الضيق للوطنية عندما نكون في محراب العدالة، وهو الفهم الذي يسود عالمنا العربي، عندما تحكم محكمة وطنية بإدانة حكومتها في قضة تعذيب أو قتل، ارتكبها جنودها.

فقد استعدت في الذاكرة الحكم الذي أصدرته إحدى محاكمنا الوطنية في مصر، بإلزام الحكومة المصرية بتعويض أسرة الصديق الراحل منصور رشيد الكخيا، وزير خارجية ليبيا الأسبق، ومندوبها الأسبق الدائم لدى الأمم المتحدة، الذي اختفى في ظروف غامضة، مساء يوم 10 ديسمبر سنة 1993، عندما حضر إلى مصر بجواز سفر جزائري لحضور اجتماعات المنظمة العربية لحقوق الإنسان، التي كانت تعقد اجتماعاتها بفندق سفير في القاهرة، وأشارت أصابع الاتهام إلى ضلوع بعض ضباط «أمن الدولة» المصري مع السلطات الليبية التي اختطفته، إلى ليبيا حيث قام العقيد القذافي بتصفيته جسدياً.

استعدت في الذاكرة هذا الحكم، فقد كنت أزور في اليوم الذي صدر فيه هذا الحكم، رئيس محكمة استئناف القاهرة، الذي تجمعني وإياه الزمالة والصداقة، عندما أصدر أمره إلى قلم الكتاب بحجب هذا الحكم عن وسائل الإعلام، وعندما صارحته بأن نشر هذا الحكم يعتبر مفخرة للقضاء المصري، لم يختلف معي في ذلك، لكنه ذكر لي أن وزير العدل هو الذي طلب ذلك.

الطفل أبو خضير حرق حياً

وعودة إلى مذبحة غزة التي ارتكبت انتقاما لخطف وقتل ثلاثة من الجنود الإسرائيليين، وكان قد سبقها خطف الطفل الفلسطيني أبوخضير انتقاما لمقتلهم، والذي استوقفه مستوطنان إسرائيليان أثناء توجهه إلى المسجد لأداء صلاة الفجر، بعد أن ترجلا من سيارتهما ليخطفاه ويدخلاه السيارة عنوة، ليحرقاه بعد ذلك حياً، فقد كشف تشريح جثة الطفل أنه أحرق حتى الموت، وهو التشريح الذي قام به طبيبان إسرائيليان، وشارك فيه طبيب فلسطيني من معهد الطب العدلي الفلسطيني، وأن آثار النيران واضحة في القصبة الهوائية للطفل، ومعنى ذلك طبياً أن الطفل كان حياً يتنفس أثناء حرقه، إنها جريمة بشعة، تعتصر القلوب وتدمي العيون.

فهل تجد روح الصبي البريء أبو خضير محكمة إسرائيلية، مثل المحكمة الهولندية، تحكم بإدانة المستوطنين الإسرائيليين، اللذين خطفاه، والقوات الإسرائيلية وحكومة إسرائيل التي تمارس القمع والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني؟

العدالة الغائبة في إسرائيل

إن غياب العدالة في إسرائيل يرجع إلى أن عقيدة الإبادة الجماعية هي عقيدة المجتمع الإسرائيلي كله، وهي الأساس الذي بنى عليه الصهاينة دولتهم على أرض فلسطين، عقيدة الجيش الإسرائيلي وعقيدة المستوطنين وعقيدتهم في إدارة العدالة، وإن من يتقدم بشكوى يتعرض لإجراءات انتقامية لا حصر لها منها الإبعاد أو الاعتقال الإداري أو هدم منزله أو كسر أطرافه، بل إن المحامين أنفسهم لا يسلمون من هذا، وقصة منى رشماوي المحامية التي قدمت شكوى بتعذيب سجين فلسطيني أمام عينيها معروفة، فقد تعرضت للمحاكمة، وأن المستوطنين يعتبرون جيش الدفاع الشعبي، يحملون السلاح بغرض الدفاع عن النفس، ولكن من حقهم أن يقتلوا أي فلسطيني بأي مبرر، وتقضي المحاكم التي تدين عسكرياً بتهمة القتل، بإيقاف الجندي المدان لمدة أسبوعين.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.