كم من التساؤلات حول ماهية عمل وكالات التصنيف الائتماني، كيف لها أن تتمتع بأي مصداقية بعد «سابقات» أعمالها؟ هل هي مجرد وكالات للتصنيف الائتماني أو السيادي للمؤسسات والاقتصادات، أم سلاح فتاك بيد منافسي الأنظمة الأكثر قوة لحماية مصالحها أو فرض شروطها؟ هل هي وكالات تصنيف أم وكالات للحروب الباردة؟
لم يكن مفاجئاً أن تهدد وكالة موديز للتصنيف الائتماني بخفض تصنيف درجة الدين الروسي، بسبب تأثير الأزمة الأوكرانية واحتمال تصاعد التوتر في المنطقة، بل ان ذلك «التهديد» ربما كان منتظراً منذ تفاقم الأزمة بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة وروسيا من جهة أخرى.تحديداً، من الممكن اعتبار قرار الوكالة رد فعل مباشر لحديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عن عزم بلاده تأسيس نظام للدفع الإلكتروني، يمهد للاستغناء عن خدمات نظامي «فيزا» و»ماستر كارد» اللذين فرضا شروطا صارمة للتعامل في روسيا، بسبب تراجع ثقة العالم ماليا في تعاملات موسكو المالية، بعد الأزمة.وقالت وكالة التصنيف «الأميركية» في بيان إن درجة روسيا البالغة «بي أيه أيه 1» وضعت «تحت المراقبة تمهيداً لخفضها»، متحدثة عن «ضعف الاقتصاد الروسي». وعزت الوكالة قرارها إلى «ضعف القدرة الاقتصادية لروسيا» بسبب الأزمة الأوكرانية والتوترات المتصاعدة في المنطقة مما يرخي بثقله على الآفاق الاقتصادية «المتدهورة أصلا» لهذا البلد. كما حذرت «موديز» من أن روسيا «معرضة أكثر فأكثر» إلى خطر حدوث صدمة مالية وسياسية إذا ما تزايدت حدة التوترات في المنطقة.وكانت «موديز» أقل دبلوماسية من «مواطنتيها» «ستاندرد آند بورز» التي أعربت مؤخرا عن قلقها من تداعيات الأزمة الأوكرانية على الاقتصاد الروسي. و»فيتش» التي أقدمت في بيان واحد، منذ أيام، على تأكيد تصنيفها لأميركا عند AAA وتخفيض آفاق روسيا من مستقرة إلى سلبية بداعي المخاطر المرتبطة بالعقوبات الغربية على موسكو إثر ضمها القرم.شكوك مشروعةتاريخياً، تمنح البيانات الصادرة من وكالات التصنيف في هذا الإطار، مشروعية للشكوك حول ماهية عملها تحديداً، تلك الشكوك «المشروعة» تدعمها «سابقات» أعمال تلك الوكالات، إذ قوبلت وكالات التصنيف الائتماني بسيل من الانتقادات في السنوات الماضية، لعل أبرزها، أنها لم تشر من قريب أو بعيد الى وقوع الأزمة المالية العالمية التي أطاحت الاقتصاد الأميركي في أغسطس 2008، وعلى الرغم من أن كل تصنيفاتها تكون متعلقة بالمستقبل، إلا أنها لم تتنبأ بتلك الأزمة، ومن يومها وتصنيفات هذه الوكالات محل شك، حيث كانت تصنيفاتها للعديد من المؤسسات المالية واقتصاديات دولية تفيد بجدارتها الائتمانية، وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها، ولكن واقع الأزمة، أظهر نتائج عكس ذلك، ولولا تدخل البنوك المركزية والحكومات الغربية وأميركا، لكان الاختفاء من السوق هو مصير تلك المؤسسات الكبرى.ومنذ أزمة المال العالمية في 2008، زاد تعرض وكالات التصنيف الائتماني للانتقاد والتشكيك إثر سقوط مصرف «ليمان براذرز» بعد يومين على منحه تصنيف AAA، أي «الأكثر أمانا».في السياق، رأى اقتصاديون أن المخاطر التي تسببت فيها مؤسسات التصنيف الائتماني والتي أدت إلى انهيار الاقتصاد العالمي لا تقل في خطورتها عن الآثار التي خلفتها الحرب العالمية الأولى والثانية وإن كانت أكثر تأثيرا، وقد أشاروا إلى أن الشفافية التي تدعيها وكالات التصنيف الائتماني ليس لها وجود من الأصل.مصالح أطراف معينةواتهم الاقتصاديون التقارير التي تصدرها وكالات التصنيف بأنها تابعة لخدمة مصالح بعض الأطراف، ومحاولة منها لابتزاز الدول والشركات لتحقيق اكبر قدر ممكن من المكاسب بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى. حتى ان أحدث التقارير الصادرة عن «أرنست أند يونغ»، أشار إلى أن وكالات التصنيف الائتماني تأتي في المرتبة العاشرة في الأسباب التي كانت مسؤولة عن الأزمة المالية العالمية، حيث قامت هذه المؤسسات بمنح تصنيفات عالية لاستثمارات غير مستقرة، مما أدى إلى خداع الكثير من المستثمرين وتورطهم فيها، وهو ما ظهر جلياً بعد أن بدأت ملامح الأزمة تتضح للعيان.وبحسب ما ورد في تقرير لجنة التحقيق في الأزمة المالية الأميركية لعام 2011، فقد لعبت وكالات التصنيف دورا بارزا في حدوث الانهيار المالي والتوابع الاقتصادية التي أعقبت الأزمة المالية عام 2008.ومع ذلك، وفي وضع مثير للدهشة، لاتزال تلك الوكالات على قيد الحياة وبخير وعافية. ويبدو أنها قد استعادت حتى مصداقيتها.وإعمالاً لذلك، تطرح الكثير من التساؤلات نفسها: ألا يتوجب على وكالات التصنيف أن تكون قد توقفت عن العمل الآن بعد أن أبلغتنا لسنوات وسنوات بأن المخاطر المصاحبة للديون المتضخمة للبنوك والشركات الكبرى لا تدعو للخوف؟ كيف لهذه الوكالات التي ارتكبت أخطاء منهجية في الماضي أن تتمتع بأي مصداقية كانت في أي تحليل عن المخاطر تقدمه الآن؟ وأخيراً: هل هي مجرد وكالات للتصنيف الائتماني أو السيادي للمؤسسات والاقتصادات، أم سلاح فتاك بيد منافسي الأنظمة الأكثر قوة لحماية مصالحها أو فرض شروطها؟حرب التصنيفاتأفصح ما يجيب عن تلك التساؤلات هو تاريخ المؤسسات نفسها و»سابقات» أعمالها، ففي نفس سياق «حرب التصنيفات» بين روسيا والولايات المتحدة بشأن أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، انتقد الخبراء خفض التصنيف الائتماني لمصر، مؤكدين أنه يعتبر تعمدا مقصودا من أجل تحقيق أهداف معينة وراء هز الثقة في الاقتصاد المصري وقدرته علي مواجهة النهوض العالمي، وفسروه على أنه يدعم سياسات دول غربية من أجل تحقيق مكاسب معينة من قلق العالم الغربي من نهوض الاقتصاد المصري مرة أخرى.وفى حالة مصر أصبح السؤال أكثر مشروعية، هل التصنيف السلبي للاقتصاد جاء كعقاب لمصر على توجهاتها الجديدة في سياستها الخارجية، ومحاولتها الخروج من العباءة الأميركية، أم وسيلة ضغط لإملاء شروط محددة؟ تماماً كما حدث في لبنان، حين وقع السوق المالي والمصرفي هناك تحت وطأة تقارير وكالات التصنيف الائتماني، والتي حذّر آخرها، من احتمال خفض تصنيف سندات لبنان الحكومية «بسبب التأثيرات المحتملة للحرب الأهلية السورية التي قد تفضي إلى زيادة عبء الدين السيادي المرتفع بالفعل في 2013 و2014 وإلى اضطراب سياسي أيضا»، اجتمع ممثلو وفد إحدى مؤسسات التصنيف الائتماني مع مسؤول لبناني رفيع المستوى، أكدوا له أن إدارة لبنان المالية «ممتازة». لكن ما كتب في تقرير تلك المؤسسة التقييمي بقي في إطار «مقبول»، وذلك لان المؤسسة «مضطرة»، وفق ما أكد الوفد الدولي لدى سؤاله... وهذا يعني أن ثمة «أجندة» تستند بوضوح إلى الخلفية السياسية للبنان. فهل يحق لوكالات التصنيف إخراج الدول من السوق لأنها غير معجبة بأدائها السياسي لا المالي؟نقاش سياسيأيضاً، تحولت وكالات التصنيف الائتماني إلى طرف في النقاش السياسي الجاري في الولايات المتحدة حول رفع سقف الدين، إذ يستخدمها الديمقراطيون للتلويح بالعواقب التي قد تلحق بالبلاد في حال خفضت العلامة القصوى التي تمنحها إياها، مما سيشكل نكسة قوية لرئاسة باراك أوباما. وبالرغم من تأكيد وكالات ستاندارد اند بورز وموديز وفيتش على أن قراراتها غير سياسية، فان الديمقراطيين استغلوا أي رأي صدر عنها لاتهام الجمهوريين بقيادة البلاد إلى حافة الهاوية.إذاً، ليس من قبيل الصدفة أن يكون مقر وكالات التصنيف الثلاث الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية، وعلى الرغم من التراجعات المتتالية في مؤشرات الاقتصاد الأميركي منذ بداية الألفية الثالثة، فإن التصنيف الائتماني الصادر عن هذه الوكالات للاقتصاد الأميركي، لا يقل بحال من الأحوال عن (+AAA)، واستثناء على هذه القاعدة أصدرت وكالة استاندارد أند بورز تصنيفا يفيد بتراجع التصنيف الائتماني لأميركا، إلا أن هذا التصنيف لم يستمر طويلا، حيث تراجعت الوكالة عن هذا التصنيف وأبقت وضع الاقتصاد الأميركي في أفضل مراتب التصنيف كما كانت من قبل.وعُدّ موقف وكالات التصنيف الائتماني من توصيف الاقتصاد الأميركي مثيرا للتساؤلات، فهناك اعتبارات اقتصادية لم يأخذها التصنيف في الاعتبار.. ألم يتجاوز الدين العام لأميركا ناتجها الإجمالي؟ ألم يحدث أكبر خلاف سياسي داخل أميركا حول وضع الدين والعجز بالموازنة، مما جعل أوباما يخفض من قيمة موازنة عام 2013 بنحو 80 مليار دولار؟ولو كانت هذه النتائج السلبية قد تحققت في واحدة من الدول الأخرى، هل كانت تأخرت وكالات التصنيف عن إصدار تقاريرها الداعية إلى تخفيض التصنيف الائتماني؟ ولكنها الأسئلة التي تبحث عن إجابة لكشف حالة اللبس والغموض حول دور هذه الوكالات، وتضارب موقفها من دولة إلى أخرى. وأيضاً ماهية عملها: هل هي مؤسسات تقييم أم وكالات للحروب الباردة بين الأنظمة؟
اقتصاد
وكالات التصنيف الائتماني... اقتصاد وسياسة وحروب باردة!
02-04-2014