"من تصدّر لخدمة العامة، فلا بد أن يتصدّق ببعض من عرضه على الناس، لأنه لا محالة مشتوم، حتى إن واصل الليل بالنهار".

Ad

ليس هناك أبدع من تلك المقولة المنسوبة إلى ابن حزم الأندلسي للتعبير عما يجب أن يتحلى به أصحاب المناصب العامة، في أي بلد من البلدان وفي أي زمن من الأزمنة، من سعة صدر وتقبل للنقد. تلك المقولة لا تعني أبداً التعاطف مع من يتصدى للعمل العام أو تأييده ومناصرته أياً ما كان عليه من التزام وكفاءة ونجاعة في الأداء، كما أنها لا تفترض أبداً أن جميع ما يوجه إلى صاحب المنصب العام ليس سوى ادعاءات وافتراءات أو ضرائب يدفعها مضطراً؛ لأنه اختار أو قبل بهذا المنصب، إنما تريد لنا أن نعتبر أن تقبل النقد والسخرية جزء من التزامات أصحاب المناصب العامة.

ما تعنيه تلك المقولة على الأرجح هو ضرورة أن يتسع صدر كل صاحب منصب لأي نقد أو سخرية أو انتقاص من القدر، لأن صاحب المنصب صاحب قرار، وفي القرار الذي يتخذه ما سيغضب البعض ويرضي البعض، ولذلك عليه أن يكون متقبلاً لكل استهداف من هؤلاء الذين تصدى لإدارة شؤونهم.

في الإنجيل أيضاً عبارة بليغة تقول: "ويل لكم إذا قال فيكم جميع الناس حسناً"؛ إنها عبارة تشير إلى ضرورة اختلاف الناس حول الأشخاص والأقوام، لأن الذي يحظى بالكلام الطيب من الجميع إما أن يكون منافقاً أو مستبداً عظيماً.

لماذا نتذكر تلك العبر الآن؟

لأن السؤال عن السخرية من الحكام وتوجيه الانتقاد اللاذع لهم عبر الوسائط الإعلامية المختلفة يتردد كثيراً في هذه الأيام على المستويات السياسية والأخلاقية والدينية والإعلامية، بل إن بعض رجال الاقتصاد والأعمال باتوا أيضاً مشغولين بالمسألة، لأن قطاعاً منهم يرى أن السخرية اللاذعة تؤثر في مناخ الاقتصاد، إضافة بالطبع إلى رجال الأمن الذين يعتقد بعضهم أن السخرية إنما تنال من هيبة الدولة ومكانة صاحب المنصب العام، ومن ثم يمكن أن تغري بالخروج عن القانون.

والواقع أن الاستشهاد بما قاله ابن حزم في صدر هذه المقالة يمكن أن يكون رداً مناسباً على هؤلاء الذين يتحدثون كثيراً عن أن أنماط الأداء الإعلامي الساخر ليست متوافقة مع خصوصيتنا العربية ولا بيئتنا المحافظة، في محاولتهم الدائمة لتفسير التناقض المذهل بين قبولهم للسخرية كنمط أداء إعلامي أساسي في المنظومة الثقافية والإعلامية الغربية وبين رفضهم الشرس لها في الواقع المحلي والعربي.

تزدهر السخرية في أنماط أداء إعلامي عربية جديدة في أعقاب التحولات السياسية الحادة التي حدثت في عدد من بلدان المنطقة، وهو أمر حيوي وجيد وإيجابي؛ لأن السخرية من السياسيين وقراراتهم وسياساتهم تقلل النزعات الاستبدادية، وتحول دون عودة الطغيان، وتعزز المساءلة، وتقنع المسؤول الكبير بأنه ليس سوى "موظف كبير" عند الشعب، على عكس ما ترسخ على مدى آلاف السنين من أنه "نصف إله"، أو "زعيم ملهم"، أو "ولي معصوم"، أو "خليفة لا يأتيه الباطل".

لكن ترك الباب مفتوحاً أمام أقسى تجليات السخرية وأكثرها حدة ليس مطلوباً، وترك الحبل على الغارب لارتكاب بعض الجرائم تحت اسم "النقد الساخر" ليس مستساغاً، لأن هناك فرقاً بين "نقد حاد، يتسم بمسحة من خفة الظل، على قاعدة من البرهنة والالتزام"، وبين "انتهاك صارخ، بلا سند أو برهان، لخصوصية وكرامة حاكم أو مسؤول، بما يتغول على حقه أولاً كإنسان وثانياً كموظف عام".

ما المعيار الذي يمكن أن نستند إليه في تقييم الأداء الإعلامي الساخر إذن؟ أي متى يصبح هذا النمط من السخرية مُجازاً، ومتى يصبح متجاوزاً؟

يجب توافر عدد من الشروط في أي اقتراب صحافي أو إعلامي ساخر ليمكن اعتباره "ممارسة إعلامية مقبولة"، على النحو التالي:

أولاً: احترام القانون

إن الإبداع صيغة تتجاوز الأطر السائدة، وتخرج عن المألوف والمتكرر غالباً، ولذلك سيمكن تفهم الحدة، والجرأة في السخرية، والاختلاف عن المعتاد، لكن ما لا يمكن تفهمه أن ينطوي الإعلام الساخر مثلاً على سب أو قذف واضحين.

لماذا سيضطر إعلامي نابه مثلاً، ضمن حصة ساخرة مدروسة ومبدعة يقدمها، لأن يسب شخصاً أو جهة، أو أن ينسب إلى أي مسؤول جريمة أو نقيصة أخلاقية أو يجرّحه شخصياً، دون أن يمتلك دليلاً قاطعاً على ما يقول؟

ثانياً: المزاج العام

إن الإعلام الساخر نمط من الأداء موجه إلى جمهور محدد ويرجو الرواج والحصول على الإعجاب... فتلك بالطبع اعتبارات الصناعة واشتراطات استدامتها وازدهارها.

إن السخرية بالذات يجب أن تحظى بالتوافق مع المزاج العام لقطاع مهم من الجمهور. يجب ألا تتصادم السخرية، مهما كانت حاذقة وفنية، مع قابلية القطاع المؤثر من الجمهور لتفهمها والاستمتاع بها، سيمكن مثلاً أن نقول أي وصف فني عن "الرسوم المسيئة" إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي نشرتها صحيفة دنماركية قبل أعوام، لكننا نعرف الآن أن القطاع المؤثر في الجمهور العربي لم يكن مستعداً لمناقشة تلك الرسوم من الناحية الفنية أو الإبداعية. إن المزاج العام يفرض شروطه في مثل تلك الحالات.

ثالثاً: الإفصاح

يجب أن يفصح صاحب البرنامج المقدم عن طبيعة برنامجه، وأن يقدم وصفاً دقيقاً للحصة البرامجية التي يقدمها، وأن يشير بوضوح إلى أنه برنامج ساخر، وأنه لا يقدم حقائق كما أنه لا يحتكر الحقيقة بطبيعة الحال.

رابعاً: الإبداع الخاص

من الضروري أن ينطوي ما يُقدم ضمن حصة السخرية تلك على جهد وإبداع فني خاص، أي لا يكون مجرد شتائم ولغو وتفاهات. من السهل جداً أن يحظى أي شكل من أشكال الشجار اللفظي وكيل السباب باهتمام الجمهور ومتابعته، كما أن الإيحاءات الجنسية، واصطياد التناقضات الصارخة، وتكرار المواقف وقلبها تجذب اهتمام الجمهور وتحظى بمتابعته، لكنها لا تعبر عن السخرية الجيدة، التي يجب أن تعكس جهداً فنياً خالصاً، وتطرح فكراً وفلسفة ما، وتعكس اتساقاً في المواقف، وتنطلق من قيمة ثقافية أو اجتماعية أو سياسية.

الإعلام الساخر مادة ضرورية في أي منظومة إعلامية، وعامل تحفيز حيوي لأي مجتمع، وآلية للمساءلة والمحاسبة للسلطة، طالما التزم بالشروط الأربعة السابقة، وكلما خرق شرطاً منها، أو نكص عن الالتزام به، اقترب من التحول إلى مادة للسباب والمهاترات والتجريح.

* كاتب مصري